صبحي غندور - النجاح الإخباري - احتفلت الولايات المتحدة منذ أيام قليلة بيوم القسيس الأمريكي الإفريقي، مارتن لوثر كينغ، الذي كان من أشهر دعاة الحقوق المدنية في حقبة الستينيات من القرن الماضي، والذي جرى اغتياله في العام 1968، بعد أن ناضل طويلاً من أجل تأمين الحقوق المدنية للأمريكيين الأفارقة، ومن خلال إصراره على تحقيق ذلك بالوسائل السلمية وبنبذ العنف في المجتمع.
وها قد مضى أكثر من خمسين عاماً على ما جرى إقراره في حقبة الستينيات من قوانين تُنصف الأمريكيين الأفارقة الذين عانوا قروناً طويلة من ظلم واستعباد الأمريكيين الأوروبيين، وتسبب تحريرهم من العبودية بحرب أهلية بين الولايات الأمريكية الشمالية والجنوبية في العام 1861، لكن جرى بعد ذلك حرمانهم من الكثير من الحقوق المدنية رغم أن الدستور الأمريكي نص على المساواة في الحقوق بين المواطنين!
فالعنصرية ما زالت قضية حيوية الآن في المجتمع الأمريكي وازدهرت مؤخراً لأسباب عديدة، بينها فوز باراك أوباما، الأمريكي الإفريقي، بالرئاسة الأمريكية لفترتين (2008 -2016)، ما أيقظ مشاعر العنصرية الدفينة لدى فئة من الأمريكيين، يتواجد معظمها في الولايات الوسطى والجنوبية، وهي تعتقد بتفوق العنصر الأبيض وحقه في السيادة على الأعراق الأخرى! ثم جاء عهد دونالد ترامب ليضاعف أكثر من حجم الحساسيات العنصرية لدى البيض والسود معاً، وبحالة معاكسة لما كان عليه الحال في عهد أوباما، حيث اعتبر العنصريون البيض أن فوز ترامب جاء لصالح معتقداتهم!
وهذا الأمر هو مثال واحد من أمثلة عديدة نراها قائمة في المجتمع الأمريكي، حيث يجتمع «الربيع» و«الخريف» على سقف واحد، وحيث التناقضات صارخة بين ما في النفوس وما في النصوص، فالوجه الجميل لأمريكا الرافض للعنصرية وللتمييز العرقي والديني ظهر في العام 2008 بانتخاب مرشح للرئاسة هو ابن مهاجر إفريقي مسلم أسود اللون (باراك حسين أوباما)، ولا ينحدر من سلالة العائلات البيضاء اللون، الأوروبية الأصل، والتي تتوارث عادة مواقع النفوذ والثروة، لكن خلف هذا الوجه الجميل لأمريكا يوجد وجه آخر، يقوم على العنصرية ضد كل المزيج الذي رمز له فوز أوباما في العام 2008.
وشاهدنا في السنوات الأخيرة ممارسات عنصرية كثيرة حدثت، وهي عنصرية متجددة ضد كل أنواع المهاجرين الجدد من غير الأصول الأوروبية، وهي عنصرية نامية ضد الأقليات ذات الأصول الثقافية اللاتينية أو الدينية الإسلامية واليهودية!
أمريكا تخوض الآن حملات انتخابية مهمة ستقرر حاضر أمريكا ومستقبلها من خلال الصراع السياسي الدائر حالياً بين «الحزب الجمهوري» المهيمن عليه من تيار محافظ، والذي على رأسه ترامب، وبين الحزب الديمقراطي الذي تتفاعل فيه تحولات أفرزت تياراً شعبياً تقدمياً متنوراً يرمز إليه الآن وسط المرشحين للرئاسة كل من بيرني ساندرز وإليزابيت وارن.
أيضاً، فإن القوة الحقيقية لأمريكا هي في تعدديتها الثقافية وتنوع أصول شعوب مجتمعها، وفي تكامل ولاياتها، وفي نظامها الدستوري الذي يساوي بين جميع المواطنين، وحينما تهتز عناصر القوة هذه، فإن الضعف والوهن لا يكون حينذاك في القرار السياسي أو في الحكومة المركزية فقط، بل في خلايا المجتمع الأمريكي كله، فهي خسارة كبرى لأمريكا أن تتغذى الآن فيها من جديد مشاعر التمييز العنصري والتفرقة على أساس اللون أو الدين أو الثقافة، بعدما تجاوزت أمريكا هذه الحالة منذ معارك الحقوق المدنية في الستينيات، ثم من خلال انتخاب باراك أوباما لأهم منصب حكومي في العالم.
ولم تشهد الولايات المتحدة الأمريكية في السابق ما تعيشه هذه الأيام من عنف كلامي كبير، يصدر عن رئيسها ترامب ضد معارضيه، فالتغريدات العنيفة الصادرة عن ترامب وصلت في الأسابيع القليلة الماضية إلى حد التهديد بحرب أهلية إذا قرر الكونغرس عزله، بعد التحقيقات الجارية بشأن ضغوطاته على الرئيس الأوكراني من أجل إثبات صفقات فساد، يريد ترامب إلحاقها بالمرشح الديمقراطي للرئاسة جو بيدن وابنه هانتر.
ترامب يدرك أن العديد من الداعمين له في ولايات أمريكية عدة هم أيضاً من دعاة التمسك بحيازة الأسلحة وهم مستعدون للنزول للشوارع تأييداً له، بل ربما باستخدام العنف أيضاً، كما فعل أفراد منهم في أمكنة عدة ضد مهاجرين لاتينيين أو ضد مراكز لأقليات دينية وعرقية أو ضد جماعات سياسية مختلفة عنهم.
إن أمريكا تشهد حالات من التمييز الديني والثقافي بحق بعض الأقليات، ومنها العرب والمسلمين، وهذه الظواهر القائمة على أساس التمييز بناء على لون أو عنصر أو دين أو ثقافة هي التي تهدد وحدة أي مجتمع، وتعطل أي ممارسة ديمقراطية سليمة.
وإذا استمرت وتصاعدت هذه الحالات، فإن عناصر القوة المجتمعية الأمريكية مهددة بالانهيار وبالصراعات الداخلية، وبانعكاس ذلك سلبياً على دور الولايات المتحدة، لكن حتماً سيراجع المجتمع الأمريكي حساباته السياسية في الانتخابات المقبلة، تماماً كما حصل بعد فترة حكم بوش الابن ومعاونيه من «المحافظين الجدد»، فأمريكا حتى الآن هي مجتمع حيوي قادرٌ على استيعاب الأزمات، ويتصف بقوة المناعة الذاتية، ما يجعله يصحح نفسه ولو بعد حين!
*مؤسس ومدير مركز الحوار العربي- واشنطن/ عن "البيان" الإماراتية