عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - الارتباك الذي لمسناه في السلوك الإسرائيلي بعد صدور قرار البدء بالتحقيق في جرائم الحرب والانتهاكات ضد الشعب الفلسطيني واضح ولا يستطيع أحد أن ينكره أو التخفيف من وطأته.
لا أتحدث فقط عن هستيريا ردة الفعل، وإنما أيضاً عن محاولات البحث عن «خطط» الرد على القرار، وعن أهمية خوض معركة «الجنائية الدولية» باعتبارها مسألة مفصلية في الشهور القادمة وباعتبارها تحدياً واقعياً سيفرض نفسه على الأحداث والمواقف والسياسات وخصوصا في ظل معركة الانتخابات الإسرائيلية.
وإذا كانت قضية «الخان الأحمر» وكذلك ضم الأغوار قد تراجعتا كما غيرهما عن الواجهة في ضوء صدور هذا القرار، فإن اليمين الإسرائيلي - على ما يبدو - سيبحث له عن «مخارج» سياسية للتغطية على هذا «الفشل» الذي أصبح ماثلاً أمامه.
الملفت للانتباه هو ما تسّرب عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية من أن خطوات [وخطط سرية] يتم الحديث عنها لمواجهة الآثار المحتملة لهذا القرار، والكيفيات التي من خلالها سيتم «إحباط» القرار.
لماذا سرّيه، ولماذا تم تسريب هذا التوجه؟
عندما سألت الزميل والصديق فايز عباس عن هذا الأمر نصح بالنظر إلى هذه السرية باعتبارها حالة من التناقض في مواقف وسياسات نتنياهو.
إذ كيف يمكن الثقة على المستوى الدولي بالقضاء الإسرائيلي في الوقت الذي يصف نتنياهو نفسه هذا القضاء بأنه منحاز ويسعى للانقلاب عليه؟
وكيف يستقيم الأمر مع تصريحات نتنياهو نفسه باللغة الانجليزية، ومن خلال رسائل وجهها إلى بعض زعماء العالم بعد صدور القرار؟.
من المؤكد أن هذا التقدير صحيح، بل ودقيق أيضاً، وهو على ما يبدو يضع نتنياهو واليمين في موقف التناقض والحرج، وذلك عندما يدعي أن القضاء في إسرائيل مستقل ونزيه!!؟ كما جاء في رسائله.
لم يتسرب شيء عن هذه «السرية» ولكن يمكن التخمين مع ذلك. أقول ملفتا للانتباه لأن إسرائيل تحضّر نفسها لخوض هذه المعركة، لأنها تعرف معنى ومدلولات ونتائج الفشل في هذه الحالة، ومن المؤكد أنها لن تدخر جهداً لتفادي الفشل، وذلك بالنظر إلى تبعاتها.
فما هي مكامن الخطر في خطة المواجهة الإسرائيلية؟
أولاً: موضوع الولاية السياسية والجغرافية
من الصعب على إسرائيل «إحباط» القرار من خلال الحديث عن عدم وجود «أهلية» فلسطينية بسبب عدم وجود «دولة مستقلة» لأن الاعتراف بالدولة في مؤسسات القانون الدولي قائم، والحديث عن أن الاستيطان هو «بناء» [من أصحاب في أرضهم] هو حديث فارغ لا يعتد به، وتبني هذا الطرح من الولايات المتحدة أو من بعض زعماء اليمين الحليف لترامب ونتنياهو لن يحل لهم «الأزمة»، وتصريحات هنا وهناك من ألمانيا أو من بعض الجزر المجهولة لن تقدم ولن تؤخر كثيراً، وهي لن تكون سوى محاولات تؤكد عزلة الموقف الإسرائيلي وخيبة أمل الولايات المتحدة، ومن يحاول التخفيف من المصاب الذي ألمّ بهم، والمعركة مع ذلك موجودة هنا قبل كل معركة.
ثانيا: في موضوع الاستيطان المعركة لصالحنا دون شك، جريمة الاستيطان هي أم الجرائم، لكنها من حيث الزمان والمكان أيضا أبعد من انضمامنا لبروتوكول روما، ومن الاعتراف الدولي بنا كدولة غير عضو كامل، ولكنها أيضاً جريمة، لأن موقف القانون الدولي منها واضح باعتبارها غير قانونية، ما يعني أن هناك «إمكانية» أو أن هناك ثغرة ما على هذا الصعيد.
القانونيون لدينا ومؤسساتهم النشطة والشجاعة والمحنكة (وهنا يجب أن نثني على جهودهم المقدرة) هم الأقدر على تقدير مثل هذه الثغرة إن وجدت كما أخمن فقط.
مع ذلك فإن الاحتياط واجب، وعلينا أن ندرك أن لدى إسرائيل من المستشارين والمختصين على هذا الصعيد من هم على أعلى درجات المعرفة والخبرة والكفاءة.
وهذا يجب أن يلفت انتباهنا ويثير التحفّز عندنا.
ثالثا: في موضوع الانتهاكات على كل الصعد من هدم البيوت إلى القتل المتعمد إلى الاعتقالات إلى الحواجز والعقوبات الجماعية، ومن سرقة المياه وحتى تلويث البيئة، هناك سلسلة لا تنتهي أبداً ولكنها تشكل قاعدة متكاملة من الجرائم المخالفة للقانون الدولي، وهي بكل المقاييس في مصلحتنا، وهوامش المناورة لدى إسرائيل محصورة في جانبين اثنين فقط. واحد منهما هو التعرض للمدنيين.
في هذا الإطار تستطيع إسرائيل أن «توازي» ما بين أعمال القتل التي مارستها إسرائيل وما نتج عن أعمال فلسطينية أدت إلى نتائج مماثلة لما أدت إليه الممارسات والسياسات الإسرائيلية.
أما الثاني فهو أن إسرائيل ستدعي أن أعمالها كانت توجه بالأساس إلى أهداف عسكرية تؤدي إلى أعمال قتل للمدنيين، في حين أن الأعمال الفلسطينية، كانت توجه أساساً للمدنيين على وجه الخصوص وبصورة عشوائية.
في هذين الجانبين المتداخلين الموضوع حساس جداً، ليس لجهة الحق والعدل، لأن الفلسطيني يدافع عن نفسه ضد آلةٍ عسكرية مدمرة، وضد قوة غاشمة لها تاريخ في القتل والبطش والإرهاب الموثق من قبل كل مؤسسات القانون الدولي العادلة وحتى غير العادلة أحياناً.
لكن التحقيق في قضايا القانون أكثر دقة من هذا التعميم، وتوجد من التفاصيل والألاعيب والدهاليز ما يعطي أحياناً فرصا من الإفلات كليا أو جزئيا من الإدانة والتجريم.
عندما يتم الدخول في أدق التفاصيل، يتم «التجرد» ولو مؤقتا من أصل المشاكل وجذرها وأحقيتها وعدالتها العامة المتوافق عليها كمنطلق، ويتم بدلا من ذلك مقابلة الحجج والقرائن والذرائع بما يماثلها ويوازيها أو يتشابه معها، وتصبح الأحكام مشروطة بهذه الدرجة أو تلك بهذا الواقع الجزئي والتفصيلي.
لا يوجد في الأحكام شيء اسمه «مفهوم ضمنا» أو ما هو «متوافق عليه»، بل توجد دقة متناهية في الصياغة الدقيقة المعبرة بدقة عن المضمون.
وكل حرف وفاصلة وعلامة تعجب لها مدلول ومعنى ونتيجة.
أتذكر كيف تم التلاعب على هذه المسائل في القرار ٢٤٢، وفي رسائل الاعتراف المتبادلة، وفي حذر إسرائيل الدائم من عدم ذكر - مجرد ذكر - لعبارات تتضمن مفهوم الحقوق الوطنية الفلسطينية.
لو أن أي وثيقة في أي يوم من الأيام حملت هذا الفصل لما استطاعت إسرائيل اليوم الصمود لجلسة واحدة في أي محكمة دولية.
أقول هذا لأن التجربة مرّة، على الرغم من أننا لا ننكر الآن أننا بدأنا بالتنبه والحذر، وقد أثمر نضجنا على هذا الصعيد وأصبحنا في وضع أفضل بكثير مما كنا عليه.
المعركة فعلاً ضارية، ولم نربح إلا بدايتها فقط، لكن النصر فيها كبير وكبير للغاية، وهي معركة بمستوى حرب كبيرة وربما أكبر.
نقلاً عن: صحيفة الأيام