عريب الرنتاوي - النجاح الإخباري - راقب الفلسطينيون بعامة، والغزّيون على نحو خاص، وبكثير من الدهشة الممزوجة بالاستنكار، استنكاف حركة حماس وذراعها العسكري «كتائب القسّام» عن المشاركة في المواجهة الدامية الأخيرة التي اندلعت بين إسرائيل وحركة «الجهاد الإسلامي» في قطاع غزة، إثر قيام الأولى بتصفية أحد أبرز قادة الثانية العسكرية في غزة، وإخفاقها في اغتيال قائد أخر للحركة ذاتها، في دمشق هذه المرة، وعلى نحو متزامن.
مصدر الدهشة ودوافع الاستنكار استُمِدت من خطاب حماس وممارستها طوال سنوات وعقود ... فهي المرة الأولى التي تنجح فيها إسرائيل في استهداف فصيل بعينة والاستفراد به، حيث ظلت حماس جالسة طوال يومي الاشتباك، على مقاعد المراقبين والمتفرجين ... وهو سلوك يتنافى جملة وتفصيلاً مع كل ما رفعته حماس من شعارات، ورددته من سرديات.
حماس التي استشعرت حرجاً شديداً مذ أن لاحت في الأفق بوادر المواجهة الأخيرة، ظلت مواقفها وقراراتها النهائية تراوح ما بين حدين: الأول؛ رغبتها في إدامة «التهدئة» مع إسرائيل، وهي التي تواجه ما تواجه من مشكلات وتحديات في غزة ومع أهليها، ما يلزمها حتماً بالبقاء بعيداً عن «الخنادق» ... والثاني؛ خشيتها على «صورتها» و»مكانتها» إن افتضح أمر استنكافها أمام الرأي العام الفلسطيني، وظهورها بمظهر من يفضل التهدئة مع ابتلاع مهانة الاغتيالات والعدوان، على التفريط بها والمقامرة بخوض حرب رابعة مع إسرائيل... يبدو أن قيادة حماس، فضلت الخيار الأول، وساعدها على ذلك سرعة تحرك «الوسيط المصري» وسيل الرسائل المتبادلة التي نقلها بين تل أبيب وغزة.
ولكيلا يبدو موقف الحركة «نشازاً» أمام شعبها والفصائل الأخرى، عمدت حماس إلى تفعيل «غرفة العمليات المشتركة»، وهي إطار عملياتي مشترك للفصائل الفلسطينية (غرفة عمليات)، قلنا عنه عند تشكيله، أن حماس تريده لضبط التهدئة وإلزام الجميع بمقتضياتها، وليس لتعزيز «وحدة المقاومة» ورص صفوف المقاومين وإشراكهم في صنع قرار «الحرب والسلام» ... وهذا ما حصل بالفعل، في آخر جولة، حيث اتخذت حماس من «الغرفة المشتركة» ستاراً لإصدار البيانات العمومية الفضفاضة التي توحي بشيء فيما الموقف على الأرض شيء آخر.
لقد أوحت بيانات «الغرفة المشتركة» بأن ما يجري بين «الجهاد» وإسرائيل، هو فعل منسق، يعبر عن «تقاسم أدوار» بين الفصائل ... تشتبك الجهاد و»سرايا القدس» مع إسرائيل بدايةً، على أن تعود حماس و»كتائب القسام» للانخراط في المواجهة في وقت لاحق ... ولولا حديث الأمين العام للجهاد زياد نخّالة لقناة الميادين اللبنانية، والذي كشف فيه حقيقة الموقف، وعلى نحو لا يخلو من الإحساس بـ»الخذلان» و»التخلي»، لما عرف الفلسطينيون حقيقة ما جرى في كواليس الفصائل ومجريات الساعات الثمانية والأربعين التي هزّت العلاقة بين فصيلين حليفين.
لقد خدمت «غرفة العمليات المشتركة» هدفاً آخر لحماس، وهو السعي لعدم تمكين «الجهاد» من الاستحواذ على صورة «المنتصر» أو الفصيل القادر وحده على مواجهة إسرائيل، والمسّ بجبهتها الداخلية ... أمر كهذا، يمكن أن يلحق ضرراً بالصورة التي انفردت بها عليها منذ عقدين من الزمان، ويضع «الجهاد» في مكانة متقدمة على مضمار المنافسة بين فصليين لا يُخفي حلفهما الظاهر، تنافسهما المضمر على «المكانة» و»الصورة»، واستتباعاً على موقع الفصيل «الأولى بالرعاية» من قبل ما يسمى بـ»محور المقاومة والممانعة».
والحقيقة أن سلوك «حماس» في المواجهة الأخيرة بين إسرائيل و»الجهاد»، ليس سوى قمة جبل الجليد الظاهر للأزمة التي تعيشها حماس في غزة، وتعيشها غزة تحت حكم حماس ... فالحركة استمرأت السلطة طيلة السنوات الاثنتي عشرة من عمر الانقسام الفلسطيني، وهي تسعى في تأمين مقتضيات البقاء على رأس هرم الحكم في الشريط الضيق والمحاصر، وهي تجد نفسها معنية أكثر من غيرها بإدامة التهدئة والاستقرار، وتوفير متطلبات الاستمرار في فتح المعابر وتزويد القطاع بما يحتاجه من سلع وخدمات، فضلاً عن استمرار تدفق المساعدة القطرية، الأمر الذي يتطلب بذل كل جهد ممكن لتفادي الانزلاق إلى حرب رابعة، أو مواجهة واسعة جديدة.
لكن حماس، لا تريد في الوقت ذاته، أن تتخلى عن صورتها كحركة جهادية منذورة للمقاومة وزاهدة في إغراءات السلطة و»متاع الحياة الدنيا» ... لذلك فقد خاضت الحركة تجربة «الجلوس على مقعدين» طوال أزيد من عقد من الزمان، «مقعد السلطة» و»مقعد المقاومة»، ومع مرور الزمن، كانت الحركة تزحف لاحتلال مساحة أوسع من المقعد الأول مُخلفةً فراغاً على المقعد الثاني، تسعى «الجهاد» اليوم لملئه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
وثمة من بين المراقبين، من يقول: ما أشبه اليوم بالبارحة، في إشارة إلى أن حماس تلعب اليوم الدور ذاته التي لعبته السلطة زمن الراحل ياسر عرفات في قطاع غزة، وأن «الجهاد» اليوم، تتقمص أدوار حماس في تلك الأزمنة ... لكن القياس هنا يصح مع الفارق فقط ... فعندما كانت حماس تستهدف بعملياتها إسرائيل في تسعينات القرن الفائت والنصف الأول من العقد الماضي، كانت إسرائيل تنتقم من السلطة الفلسطينية، باعتبارها صاحبة الولاية على الضفة والقطاع ... اليوم يبدو المشهد مختلفاً: إسرائيل حرصت على إبلاغ حماس عبر الوسطاء: قطر، مصر والأمم المتحدة، بأنها لن تستهدفها بعملياتها الحربية، وأن «الجهاد» وحدها هي المستهدفة بها، وهذا ما لاحظناه من مجريات العمليات العسكرية التي اقتصرت على أهداف تابعة للجهاد.
لا يعني استنكاف حماس عن الانخراط في المواجهة العسكرية الأخيرة، أنها ستظل على هذا الموقف، طوال الوقت، وأياً كانت الظروف ... لكن التطمينات التي حصلت عليها الحركة، جعلتها تقاوم الضغوط الرامية لدفعها للمشاركة ... وهي تطمينات تتعلق بمحدودية العملية العسكرية الإسرائيلية وحصر أهدافها بالجهاد الإسلامي ... لكن الحال سيكون مختلفاً بكل تأكيد، لو أن إسرائيل قررت شن عدوان شامل على القطاع، أو إذا ما قررت ذلك في المستقبل ... في ظني أن حماس لن تقف مكتوفة الأيدي، ليس خشية من الحرج والغضب الشعبي فحسب، بل لأنها تدرك في قرارة نفسها، أنها ستؤكل بعد أن تكون إسرائيل قد أكلت الثور الفلسطيني الأسود.
والحقيقة أن ما تشهده الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية، يزيد بدوره من حرج حماس، وقد يسهم في تغيير مواقفها عند أول مواجهة قادمة ... ففي الوقت الذي يتبجح فيه فريق نتنياهو بأنه نجح في «تحييد» حماس و»شق الصف الفصائلي الفلسطيني»، يقول فريق معارض من الإسرائيليين، أنه «الجهاد» خرج منتصراً من هذه المواجهة، وأن نتنياهو قد مُني بخسارة صافية ... صحيح أن تقديرا كهذا، يندرج في سياق الصراع السياسي والحزبي الداخلي في إسرائيل، ولا يتمتع بالموضوعية بالضرورة، لكن الصحيح كذلك، أن التصريحات والمواقف الصادرة عن خصوم نتنياهو وأنصاره على حد سواء، لا تخدم أحداً سوى الجهاد الإسلامي، ولا تلحق ضرراً بأي فريق، أكبر من ذاك الضرر الذي يلحق بحماس ... فحماس هي المسؤولة عن «شق الصف» وهي التي قبلت بالحياد والتحييد، وفقاً لرواية أصدقاء نتنياهو، و»الجهاد» هو المنتصر الأكبر وفقاً لاتهامات خصومه.
هي تجربة إضافية أخرى، تدلل بصورة لا تدع مجالاً للشك، على تعذر الجمع بين «السلطة والثورة»، أو «السلطة والمقاومة»، لقد خاضت حركة فتح التجربة من قبل وفشلت، وخاضتها حماس اليوم وهي تفشل، ونذهب أبعد من ذلك، إلى لبنان، لنقول أن التحدي الأكبر الذي يواجه حزب الله اليوم، إنما ينجم عن إخفاقه في الجلوس مرتاحاً على مقعدي السلطة والمقاومة معاً.