النجاح الإخباري - الحديث عن الانتخابات هو حديث عن إنهاء الانقسام والاحتكام للمواطن ليفصل في الخلاف القائم الذي ترتب على انقلاب حزيران 2007، وهو بالقدر الذي يشكل مخرجاً لوضع حد لتبعات الانقسام بالقدر نفسه يشكل مدخلاً جدياً لنقل الحالة الفلسطينية من وضع إلى وضع آخر. لم تكن الانتخابات في حياة الشعوب إلا فرصة ليمارس المواطن فيها حقه في تقرير مصير بلاده واتخاذ القرارات الصعبة عبر الأطر التمثيلية التي تمثل إرادته السامية التي يتم إنجازها عبر التفويض وفق الإرادة الحرة. وربما أن النضال من أجل الخيار الديمقراطي لم يقل ضراوة في بعض تجارب الشعوب عن النضال للتحرر من الاستعمار والتوق للحرية.
والمؤكد أنه لا حرية يتم استلاب الفرد خلالها، وأن التوق للتخلص من الاستعمار يعني مقدرة المواطنين على ممارسة حقوقهم المدنية، صحيح أن تجارب ما بعد التحرر من الاستعمار في بلداننا العربية شهدت نكوصاً وتراجعاً عن الخيار الديمقراطي، بل يجوز القول: إنه لم يكن موجوداً ضمن خيارات النخبة التي صعدت للحكم بعد التخلص من الاستعمار، لكنه أيضاً فإن النقاش حول الضرورة الديمقراطية لم يغب يوماً، بل ظل حاضراً حتي في ذروة الحماسة الوطنية والقومية، لأن خيار الفرد هو أساس خيار الجماعة، وربما أن حالة التفكك التي شهدتها بعض الدول العربية فور سحب فتيل القنبلة الديمقراطية، خلال ما بات يعرف بالربيع العربي، يكشف الكثير من القلق الذي كان يعتمل داخل المجتمع العربي في حقبة ما بعد التحرر من الاستعمار.
مقصد القول هنا: إن التوق للعملية الديمقراطية والعمل على إنجاز الضرورة الديمقراطية لم يغب يوماً ولا يمكن تخيل مجتمع تغيب عنه، حتى رغم كل الظروف والصعاب التي تواجه أي مجتمع. مرة أخرى، إن العمل على رفعة المجتمع وتحقيق الصالح العام يتطلب تحقيق إرادات الأفراد من خلال صندوق الانتخابات. ولا يكاد يخلو تنظير سياسي عن تطور المجتمعات دون الإشارة الصريحة إلى رغبة المواطنين في تحقيق إرادتهم وترجمتها لفعل سياسي بامتياز. فالترجمة الحقيقة لحكم المواطنين لا تتم إلا من خلال صندوق الانتخاب، وفي الأوقات التي يتم استلاب المواطنين تلك الإرادة يغيب المعني الحقيقي للحياة السياسية.
وفي الحالة الفلسطينية، فإن غياب الاحتكام لصندوق الانتخابات كان نتيجة استلاب إرادة المواطنين بعد أحداث حزيران الدامية في العام 2007 حين تم استبدال إرادة المواطن بالانقلاب واستلاب السلطة. ومن المؤكد أن انقلاب حزيران المشؤوم قضي على فرص تطور العملية الديمقراطية في فلسطين. لم يسبق في المنطقة العربية أن تم تداول سلمي للسلطة وفق انتخابات حرة ونزيهة كما حدث في الحالة الفلسطينية. ما حدث في كانون الثاني 2006 حين فازت حركة حماس وقام الرئيس عباس بتكليفها تشكيل الحكومة حالة نادرة في المنطقة. هبت رياح التغيير الديمقراطي على المنطقة العربية بعد سنوات من العملية الديمقراطية الأنجح في العالم العربي، لكنها هبت مع دماء ودمار وعنف وقتل وتفجيرات. أما في الحالة الفلسطينية، فإن ما تم لم تسفك فيه قطرة دم واحدة. ذهب المواطنون طواعية لصندوق الاقتراع واختاروا من يمثلهم، وخسر التنظيم الذي أنشأ السلطة وسلمها إلى خصمه دون أي مشاكل. العملية الديمقراطية في فلسطين كان يمكن لها أن تشهد تطوراً غير مسبوق لو استمرت بشكلها الطبيعي وذهبنا لانتخابات في موعدها بعد ذلك دون إراقة الدماء التي تمت في حزيران 2007، لكن هذا لم يحدث وانتهت العملية الديمقراطية ودخلنا في دوامة الانقسام القاهرة التي لم يكن أحد يتوقع أن تستمر لأكثر من اثنتي عشرة سنة. بهذا توقف التطور الديمقراطي وضاعت علينا فرصة أن نكون البلد الأكثر ديمقراطية عربياً.
ضاعت الفرصة وهبت رياح التغيير على المنطقة العربية، وتم دفع أثمان غالية في بعض البلدان العربية وصلت إلى تقسيمها وتمزيقها بشكل بشع. لكن بعضها نجح في اجتياز الأوقات الصعبة والتحول التدريجي إلى العملية الديمقراطية كما حدث في تونس، وبعضها الآخر ما زال يتعثر ويتخبط ويتوجع. في المحصلة يصعب التنبؤ بمآلات الربيع العربي وموجاته ودفقاته الجديدة، لكن المؤكد أن ثمة نقاشاً لا بد أن يظل على الطاولة حول الخيار الديمقراطي واستعادة المواطن لإرادته المسلوبة. وربما أن الربط بين الاستقرار وبين الديمقراطية لم يكن عبثاً في الأطر النظرية لكنه بحاجة لإثمان باهضة عملياً.
الآن يعود النقاش حول الخيار الديمقراطي كحل للأزمة الداخلية الفلسطينية، ويبدو وفق ما يصدر من تصريحات أن ثمة تقدماً يمكن الحديث عنه، خاصة بعد موافقة الأطراف وليس فقط استعدادها لإجراء الانتخابات، ومن المؤكد أنه دون إجراء انتخابات حرة ونزيهة تتم خلالها عودة الأمر لصاحبه: المواطن، فإنه من الصعب الحديث عن إنهاء حقيقي للانقسام والتخلص من تبعاته. هذا يتطلب ضمن أشياء كثيرة الإيمان بالخيار الديمقراطي وعدم اعتبار إجراء الانتخابات خياراً إكراهياً للخروج من المأزق. صحيح أن هذا الأمر ليس أبعد من ذلك في حقيقته، لكن يجب دائماً التأكد من أننا نؤمن بالديمقراطية ليس لأن فيها الحل السحري لكل مشاكلنا، ولكن لأنها أفضل من نعرف من سبل لإدارة شؤون وعلاقات المواطنين.
ومع هذا، فإن المرور عبر الانتخابات وحده يمكن أن يعيد الأمور إلى نصابها، وهذا يتطلب إنجاح العملية الديمقراطية وتقديم بعض المرونة في التعاطي مع الواقع الذي يجب أن تتم فيه من أجل جعل الأمر ممكناً. بعد سنوات سوداء، فإن شعبنا يستحق حياة أفضل من تلك التي عاشها تحت الانقسام، والشعب الذي خبر أول تجربة ديمقراطية عربية بعد التحرر من الاستعمار يستحق أن ينعم بالديمقراطية مرة أخرى؛ لأن الإنسان مسلوب الإرادة لا يمكن له أن يبحث عن الحرية، فشعب لا يحتكم للديمقراطية لا يمكن له أن يواصل بحثه عن الحرية.