ماجد هديب - النجاح الإخباري - في ظل انشغال الثورة العربية بمقاتلة الدولة العثمانية جنبا الى جنب مع الفيلق اليهودي تحت راية بريطانيا، فان قيادة تلك الثورة ، ومعها الحركة العربية في دمشق والقاهرة ،قد تجاهلوا في ذلك الحين ما شاع من اخبار عن وعد بلفور،تماما كما كانوا قد تجاهلوا مخـاطر اتفاقيـة سايكـس_بيكو ،حيث لم تحاول قيادة الحركة العربية في ذلك الحين ونتيجة لتأثير الحسين بن علي على بعض الأقطاب فيها من الوقوف مع انفسهم للحظة مع الذات من اجل التفكير بالعمل الجدي على احباط ما صدر عن الانجليز من خيانة لوعود وعهود كانوا قد قطعوها للعرب في ظل التحولات التاريخية وتسارع الاحداث ،ولذلك فان الحسين بن علي كان قد استمر بالقتال تحت راية الانجليز على الرغم من التحذيرات العثمانية له بخطورة ما اقدم عليه من قتاله للدولة العثمانية والتحريض عليها خدمة للإنجليز ومخططاتهم ، وعلى الرغم أيضا من محاولة قائد الجيش العثماني استمالة الحسين بن علي للقتال بجانب دولة الخلافة ضد الانجليز مقابل وعود له بملك وخلافة له ولأبنائه من بعده ،ولذلك يمكن القول بانه ما كان للإنجليز اعلان وعد بلفور فيما لو عمل العرب على افشال اصدار هذا الوعد في ظل حاجة الانجليز لهم في احداث الحرب ،بل ويمكن القول أيضا بانه ما كان للإنجليز تنفيذ هذا الوعد دون مساعدة ومساندة من العرب انفسهم.
كان تقرير كامبل الذي صدر عن الدول الاستعمارية قبل عقود من اندلاع الحرب العالمية الأولى حافزا قويا لبعض اليهود لتأسيس الحركة الصهيونية ،بل ان هذا التقرير كان بمثابة المقدمات الأولى لتنفيذ اعلان الدولة اليهودية من اجل تحقيق حاجز بشري في نقطة التقاء الجزئيين الآسيوي والإفريقي وفقا لما اشارت اليه الدول الأعضاء في مؤتمر كامبل من حيث ضرورة وجوبه لإبقاء ما كان يقع تحت سيطرة الدولة العثمانية من مناطق وشعوب في حالة من الضعف والتجزئة كضمانة للمصالح الاستعمارية لدول هذا المؤتمر ، ولذلك فانه وقبل الاحتلال البريطاني لفلسطين ،وفي بداية الحرب العالمية الأولى أيضا فان الحكومة البريطانية قد طلبت من الوزير الإنجليزي اليهودي " هربرت صمويل"أن يضع تصورا لما ينبغي أن تكون عليه أمر فلسطين بعد انهاء الدولة العثمانية وتقسيم ممتلكاتها.
كان صموئيل قد تقدم بمذكرة طالب فيها ان تخرج فلسطين من اية اتفاقات او تفاهمات مع فرنسا ، لأن سيطرة فرنسا على موقع قريب من قناة السويس يشكل تهديدا مستمرا ومخيفا لخطوط المواصلات البريطانية لان العلاقات الطيبة ووفقا لما أشار بمذكرته لا ضمانة لها بالاستمرار مع فرنسا طوال الوقت ،وبان الحل الذي يوفر أكبر فرصة لضمان المصالح البريطانية هو إقامة اتحاد يهودي كبير تحت السيادة البريطانية في فلسطين يبدا بمنح تسهيلات للمنظمات اليهودية في شراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة التي تجعل من اليهود أكثرية في البلاد ،وهذا هو ما تم الاتفاق عليه فعلا وفقا لما جاء في تقرير اللجنة الملكية البريطانية المنشور عام 1937 " أنه في شهر فبراير(شباط) 1917 وقبل هزيمة الدولة العثمانية بفلسطين وانسحاب جنودها من فلسطين تم فتح باب المفاوضات الرسمية بين الصهيونية والحكومة البريطانية وتلتها مفاوضات أخرى بينهم وبين الحكومة الفرنسية انتهت بالموافقة على المشروع الصهيوني في باريس وأرجئ نشر هذه الموافقة حتى أواخر أكتوبر عام 1917على شكل رسالة من بلفور إلى راعي المنظمة الصهيونية اللورد جيمس روتشيلد".
كانت المفاوضات قد استمرت بين بلفور والصهيونيين تسعة أشهر وذلك في في الوقت الذي كانت فيه الثورة العربية تعمل على مطاردة جنود الدولة العثمانية واسقاط اخر ما تبقى لهذه الدولة من حاميات عسكرية قد تعيق احتلال الجيش البريطاني لفلسطين ،الا ان ذلك لا ينفي بان هذا الوعد كان قد اثار موجة من السخط والاحتجاج لدى بعض الأوساط العربية في القاهرة ودمشق،حيث عمد بعض القوميين العرب إلى الاتصال بالحسين بن علي عن طريق ممثله في القاهرة (الفاروقي) وذلك للإعلان عن معارضتهم لوعد بلفور واحتجاجهم أيضا على صمت الحسين بن علي على ما أثير عن هذا الوعد وعدم معارضتة له ،وخاصة بعد ان افهم الفاروقي نفسه بعض القوميين العرب باقتناع سيده بالبرنامج البريطاني المتعلق بفلسطين ، وكذلك الحال بالنسبة لاحتلال فرنسا لسوريا .
لم يحاول الوطنيين في دمشق والقاهرة التأثير كثيرا على سير الاحداث العسكرية بالمنطقة ،ولا حتى محاولة التغيير في سياسة الحسين بن علي من خلال مواصلة الضغط عليه رغم فشلهم بإقناع الحسين بن علي نفسه بضرورة اعلان معارضته لوعد بلفور ،حيث انه ووفقا لما أشارت اليه العديد من المذكرات فان مبعوث القوميين العرب الى الحسين بن علي ( حقي العظم ) قد فشل بإقناع بالحسين بن علي ونجله الأمير فيصل بضرورة اعلانهما معارضة ما يسمى حق اليهود في وطن قومي في فلسطين رغم تلويح القوميين انفسهم ومن خلال مؤتمر قومي إعلان الاعتراض على زعامة الهاشميين للدولة العربية الموعودة ما لم يتم اعلان عميد هذه الاسرة عن استنكاره للمشاريع الصهيونية ومن ثم تقديم احتجاجه لدول الحلفاء عليها.
كان على الحسين بن علي أن يتجاوب ولو ظاهريا مع الاستياء الذي عمّ الأوساط العربية وذلك للحفاظ على استمرار إنجازات ثورته ضد دولة الخلافة الإسلامية لصالح الانجليز، ولذلك كان قد طالب من الحكومة البريطانية تفسيرا واضحا لوعد بلفور ومداه، وهذا ما دفع وزارة الخارجية البريطانية في حينه إلى إيفاد الدكتور هوجارت لإبلاغ الحسين بن علي بأن على العرب أن يقبلوا باليهود في أجزاء من فلسطين على ان تسوى هذه الأجزاء فيما بعد في مؤتمر السلم وفقا للمثل العليا التي تؤمن به حكومة صاحب الجلالة.
أبدى الحسين بن علي ووفقا لما أشار اليه العديد ممن عايشوا تلك الاحداث والوقائع تفهمه على ما جاء به هوجارت، كما كان قد عبر ايضا عن استعداده التام لقبول الفكرة وذلك حينما وافق بحماس قائلا وذلك بعد أن فتح عباءته واسعا "انه يرحب باليهود في كل البلاد العربية".
هنا لا بد من القول بانه إذا ما افترضنا حسن النية بكلام قائد الثورة العربية حينما رحب باليهود في البلاد العربية, وبان هذا الترحيب ووفقا لما أشار اليه العديد من أصحاب المؤلفات المؤيدة للثورة الكبرى لم يكن يتعدى إطار الضيافة والتسامح وفقا لما جاء به جورج انطونيوس في كتابه "يقظة العرب"، فلماذا إذا لم يطالب الحسين بن علي بوقف الهجرة وعدم اتساع النشاط الاستيطاني بدل الاتجاه للكتابة في جريدة القبلة آنذاك وذلك بعد زيارة هو جارت له بوقت قصير ليمدح الهجرة اليهودية ويعلن تشجيعه لها؟ ، ولماذا تابعت الثورة العربية في ذلك الحين وعلى راسها الأمير فيصل نفسه المفاوضات مع الحركة الصهيونية في مؤتمر السلم ؟, وهل كان الاتفاق الذي توصلت إليه الحركة الصهيونية مع فيصل بن الحسين لا يتعدى فعلا إطار الضيافة والكرم أيضا ، ام ان نصوص ذلك الاتفاق كانت بمثابة الاعتراف الكامل بحق اليهود في دولة يهودية مع التعهد بالمساهمة في إرساء قواعد هذه الدولة وحمايتها؟.