حسن خضر - النجاح الإخباري - العراق ولبنان، بعد الجزائر والسودان، هنا والآن. والعراق ولبنان والجزائر والسودان بعد تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا قبل ثماني سنوات.
وبعد كل هذا البعد بعد في كل مكان آخر، فلن تتوقف موجة الربيع العربي قبل إشراق فجر الحرية في منطقة هي الأكثر ظلماً وظلاماً في الكون. فما يليق بالآخرين يليق بالعربي: الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
لم يحصد أحد أزهار الربيع في بلدان ضربتها موجة الربيع الأولى، وتعثّرت الموجة بطريقة مأساوية، في تلك البلدان باستثناء تونس، التي تراوح في المنطقة الرمادية.
والمنطقة الرمادية هي قدر الجزائر والسودان، في الموجة الثانية، وقدر العراق ولبنان في الموجة نفسها.
وبعد الموجة الثانية ستكون هناك ثالثة ورابعة فلن يتوقف العد قبل إشراق فجر الحرية.
وبقدر ما أرى تبدو المرحلة الرمادية، أي تعادل فرص التراجع والتقدّم، ممراً إجبارياً، فمن السذاجة التفكير في احتمال الانتقال السلس، والمفاجئ، إلى الديمقراطية في بلدان لم تعرف غير الاستبداد على مدار قرون.
ومع ذلك، لا ينبغي النظر إلى مرحلة كهذه بطريقة سلبية تماماً، فهي مفيدة بقدر ما تتعلّم موجة لاحقة من أخطاء موجة سبقت. ففي الموجة الأولى، مثلاً، قفز الإسلاميون والعسكر إلى العربة لأسباب مختلفة، ووجدوا في الشارع نفسه أكثر من حليف ونصير. ولكن الحذر والتحذير من مخاطر هؤلاء وأولئك تجلى بصورة واضحة في الموجة الثانية التي ضربت الجزائر والسودان. وتجلّت فيها، أيضاً، ممانعة صريحة وفصيحة للتدخلات الخارجية، العربية وغيرها.
ولعلنا نجد في النموذج التونسي وسيلة إيضاح مثالية لمعنى المنطقة الرمادية. فقبل أسابيع قليلة، وبعد انتخابات نزيهة، صعد إلى سدة الحكم، في قصر قرطاج، رئيس جديد من خارج نخبة السياسة والأمن والبزنس.
وهذا، كما قال، معلّقون عرب وعجم دليل على عدم ثقة الشعب بالنخبة السائدة. بيد أن هذه الحقيقة لا تصلح وحدها لتكون ضمانة كافية على طريق التحوّل الديمقراطي.
وبالقدر نفسه، لا يمكن التحقق من جدوى وجدية وعود الحاكم الجديد إلا بعد انتهاء ولايته الدستورية، سواء تمثلت في فترة واحدة أو اثنتين، فإن تخلى عن السلطة، ولم يتلاعب بالدستور لتأبيد وجوده في قصر الرئاسة، يمكن القول إن تونس تقدّمت خطوة إضافية على طريق التحوّل الديمقراطي. أما إذا استهوته الشعبوية، وأسكرته بعد قليل شهوة الحكم، فلن تخرج البلاد من المنطقة الرمادية في وقت قريب.
بمعنى آخر، طريقة النزول عن كرسي الرئاسة لا تقل أهمية عن طريقة الوصول إليه. فالنزول أبعد أثراً، وأكثر دلالة من الوصول. وستحتاج تونس، وبلدان كثيرة في العالم العربي، إلى أكثر من رئيس سابق بمحض إرادته قبل الوصول إلى بر الأمان.
من المُعيب، حقاً، أن يقتصر الكلام في سياق كهذا على طريقتي النزول والوصول، مع غياب وتغييب كاملين للكلام عن البرامج الاجتماعية والسياسية.
لكن هذا، بقدر ما أرى، مربط الفرس. فكل كلام عن البرامج الاجتماعية والسياسية بلا قيمة ما لم يكن مشروطاً ومكفولاً باحترام فترة الولاية الدستورية التي ينبغي ألا يتجاوزها الحكّام المُنتخبون، بيوم واحد، حتى لو كانوا من طينة المُصلحين العظام.
ومع ذلك، في سياق الكلام عن الموجة الثانية ثمة ما لا يقل أهمية ودلالة عن هوية وخصوصية المنطقة الرمادية، ففي مجرّد وقوع الموجة نفسها ما يُبطل أهم ذريعة من ذرائع الثورة المضادة التي تتخذ مما وقع في ليبيا واليمن وسوريا وسيلة إيضاح للتحذير من مخاطر الخروج على الحاكم، وممارسة الشعب لحقه في الخروج والمطالبة بإسقاط النظام.
والمسكوت عنه في ذريعة كهذه لا يتمثّل في كونها مرافعة لتأبيد أنظمة في الحكم تفتقر إلى الشرعية وحسب، بل وفي كون المرافعة نفسها محاولة لحجب حقيقة أن ما وقع في تلك البلدان نجم عن محاولة لتـأبيد الوجود دون تجديد مصادر الشرعية، أيضاً. ولم يكن لأمر كهذا أن يتأتى دون ديمومة وتعفّن وشلل أنظمة الحكم المُطلق. فلو لم تصبح سوريا جمهورية وراثية، ولو اكتفى القذافي، وصالح، وبن علي، ومبارك، بفترة رئاسية أو اثنتين لكنّا في حال غير هذا الحال.
فالمقياس الذي يجب ألا نفشل في القبض عليه، والتذكير به، يتمثل في الإصرار على احترام حدود ومحدودية الفترة الرئاسية، وما ينطوي عليه انتهاك هذه وتلك من مخاطر كلما نجح نظام هنا أو هناك في تأجيلها، بالقوة والإكراه، أصبحت أكثر حدة وقابلية للانفجار.
وأخيراً، تبقى خلاصات: يشهد العالم العربي، هذه الأيام، موجة ثانية من موجات الربيع. لا الإرهاب، ولا الحروب الأهلية، ولا أجهزة وأدوات القمع، يمكن أن تحول دون وصول وصعود موجة ثالثة ورابعة، بصرف النظر عن المدة الزمنية، وعن التكلفة الإنسانية الباهظة. لن تتعب الشعوب من عد موجات اللاحق منها يتعلّم من عبر ودروس السابق.
موجة الربيع ديمقراطية وعلمانية في الجوهر، وبهذه وتلك، فقط، يمكن وضع البلاد على سكة التحوّل الديمقراطي، وتكريس كل ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتحريرها من الشعبوية، والإسلام السياسي، ومافيا البزنس والأمن. هذا لن يحدث في وقت قريب، وبلا آلام ونكسات كثيرة، ولكن تباشير ووعود الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، تلوح في الأفق. هذا درس العراق ولبنان بعد الجزائر والسودان.
الايام