رجب أبو سرية - النجاح الإخباري - ليست السياسة الخارجية للرئيس الأميركي دونالد ترامب هي التي تواجه انتقادات داخلية وخارجية واسعة، وليست سياساته أو مواقفه تجاه كوريا، فنزويلا وإيران، مرورا بالصين وأوروبا وصولا إلى المكسيك وحسب هي التي تثير حفيظة الديمقراطيين الأميركيين، وتشجع مرشحيهم في السباق الرئاسي، على دخول المعترك الانتخابي مبكرا، فقط، ولكن أيضا الطاقم المقرب جدا من ترامب، والذي استلم ملف الشرق الأوسط، وبالتحديد ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، منذ بداية ولاية الرجل وحتى اليوم، أي خلال ما يقارب الثلاث سنوات، وهو يعكف خلالها على إعداد ما سماه صفقة القرن، في محاولة للتبشير بأنه سيفعل ما لم يفعله كل من سبقه من رؤساء ومن طواقم خاصة أوكلت لها مهمة إدارة الملف من أجل حله.
وفي الحقيقة فإن جاريد كوشنير صهر الرئيس، أي زوج ابنته وكبير مستشاريه السياسيين، لم يدخر جهداً إلا وفعله من أجل الترويج لخطته، ولم يكن الخلل يكمن في أنه لم يبذل الجهد الكافي، بل كان في سذاجته كما هو حال رئيسه، وفي قلة خبرته، وفي رؤيته السياسية السطحية، التي لا ترى أبعد من أنفها، لذا فكما حصد ترامب الإخفاق في كل الملفات التي تصدى لها منذ وصوله إلى البيت الأبيض: الملف الكوري، الفنزويلي، والإيراني، فإن طاقمه إلى الشرق الأوسط واجه الإخفاق أيضا، لأنه اعتمد في خطته على وجود رئيس الحكومة اليميني المتطرف على الجانب الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وطاقمه المشكل من أحزاب اليمين المتطرف والعنصري والديني.
ولم يضع معد صفقة العصر باعتباره أن يتغير طاقم الحكم في إسرائيل، وربما أنه فوجئ بتكبير الانتخابات مطلع العام الحالي، وربما أنه فوجئ أكثر حين عجز اليمين ونتنياهو عن تشكيل الحكومة بعد جولتين انتخابيتين متتاليتين، لذا فإن الناخب الأميركي لا بد أن يحاسب ترامب عما فعله خلال ولايته الأولى، حيث إن نسبة الفشل في السياسة الخارجية تكاد تصل إلى 100%.
من حيث الجوهر والفكرة، تعتبر صفقة العصر فاشلة، حيث إنها دخلت إلى محاولة تقديم تصور إلى حل نهائي لواحد من أصعب ملفات الصراع في الشرق الأوسط، في الوقت الذي تبدو فيه المنطقة في حالة من عدم الاستقرار والاضطراب، أي أن العقلاء يفكرون في مثل هذه الحالة بالحلول المؤقتة، حتى تهدأ الأمور وتتضح الرؤية فيما يخص الترتيبات الإقليمية النهائية، خاصة أن الحراكات الشعبية في العالم العربي، تحدث «انقلابات» حاسمة وجذرية فيما يخص الخرائط السياسية الداخلية لدول محورية ومركزية في المنطقة، كذلك لجهة إعداد الخطة من قبل جهة ليست طرفا في الصراع، ولا هي حتى تنتمي إلى المنطقة ولا تعرف تفاصيل ثقافتها العميقة، وبدلا من البحث في جمع الطرفين المعنيين في مفاوضات مباشرة أو مفاوضات متعددة، ذهب الطاقم الأميركي إلى إعداد الخطة من وراء ظهر المعنيين، ويتوقع مع ما يرافقها من صورة ملتبسة أن تقبل الأطراف - الفلسطيني وحتى الأطراف العربية خاصة - مجرد قراءتها!
ليس هذا وحسب، بل يقال إن كل جولات الثلاثي المكون من كوشنير وجيسون غرينبلات وديفيد فريدمان لإسرائيل كانت للبحث في إقناع شركاء الليكود خاصة «البيت اليهودي» وتحالف أحزاب اليمين بالصفقة.
طريق الصفقة بات مسدودا تماما، ويؤكد ذلك إعلان غرينبلات مؤخرا على تأكيد استقالته أول الشهر القادم، والتي أرجأها في انتظار أن ينجح نتنياهو في تشكيل الحكومة الجديدة بعد تكليفه قبل ثلاثة أسابيع، ومع التأكد من فشله، وقبل تكليف خصمه غانتس المتوقع، ينوي كوشنير المجيء لإسرائيل في محاولة أخيرة لإقناع غانتس ونتنياهو بتشكيل حكومة الوحدة، حيث ربما يفكر الرجل بالاستقالة بعد يأسه التام من نجاحه في عرض خطته فقط.
المهم في الأمر هو أن إدارة أزرق - أبيض لمعركة تشكيل الحكومة تسير بشكل ناجح حتى الآن، فبعد أن فضّل خصم نتنياهو أن يكلف هو أولا بتشكيل الحكومة، ويفشل، ليكلف غانتس بها تاليا، وتكون إسرائيل أمام أحد خيارين: إما نجاح غانتس أو الذهاب لانتخابات ثالثة بما يعني الضغط على النخب السياسية، وكسب الوقت وصولا إلى تقديم لائحة الاتهام بحق نتنياهو، ها هو ينتظر الخطوة التالية ليلقي بخصمه إلى خارج الملعب السياسي.
في اللحظة الأخيرة قبل خروجه من ملعب السياسة الذي احتل مقدمته طوال السنين الماضية، يظهر نتنياهو وجهه العنصري القبيح، ويبدأ تحريضه الصفيق ضد العرب من مواطني الدولة وضد ممثليهم في الكنيست، حيث يعتبر أن الكتلة البرلمانية الثالثة، أي القائمة المشتركة خطر على أمن إسرائيل، مع أنهم مواطنون في الدولة المفترض أنها ديمقراطية.
ليس أكثر من هذا دليلا على العنصرية التي يتحلى بها نتنياهو واليمين الإسرائيلي عموما، والتي تكشف بشكل جلي، من كان العقبة في طريق السلام، بل هذا يؤكد أن نتنياهو الذي بدأ حياته منخرطا في التحريض على قتل اسحق رابين، أدى مهمته في «قتل أوسلو» والحل السياسي الذي كان يمكنه أن يفضي إلى السلام طوال ربع قرن من السنين.
على الأغلب فإنه قد تم تحقيق نصف التحول في إسرائيل، فإن نجح غانتس في تشكيل الحكومة، التي يعلن منذ اليوم، أي قبل تكليفه بأنها ستكون ليبرالية، أي تخرج الحريديم من صفوفها، وحتى لو كانت حكومة وحدة، فإنها ستقلل من حدة التطرف والعنصرية، لأنها لن تضم تحالف أحزاب اليمين أيضا، وان فشل، فإن الشلل سيستمر، بما يعني درء الخطر عن الجانب الفلسطيني ولو إلى حين.
الجنون السياسي وكل مظاهر العنصرية والعداء تجاه الآخرين التي رافقت ترامب في أميركا ونتنياهو في إسرائيل، وصل إلى نهايته المحتومة، وإن تحقق الخروج النهائي لنتنياهو وأغلقت حقبته السيئة، وإن تحقق فشل ترامب في الولاية الثانية، فإن السياسة الخارجية الأميركية وحتى تجاه الملف الفلسطيني/الإسرائيلي ستتغير، كذلك السياسة الإسرائيلية، ستتغير على الأقل تجاه مواطني الدولة العرب، وبذلك تكون «البعوضة قد أدمت مقلة الأسد»، وتكون القوة قد أصابت أصحابها في مقتل من حيث لا يدرون ولا يدركون.
الايام