محمد علي طه - النجاح الإخباري - شدّني العنوان المثير لمقال بروك جرفيس "أباد وحده 52 مليارد انسان" الّذي نشرته صحيفة " نيويوركر" ونقلته مترجمًا صحيفة "هآرتس" وتوّقعت أن أقرأ فيه عن السّلاح النّوويّ أو عن الحروب البشعة على مرّ التّاريخ أو عن القحط والجوع أو عن الطّاعون أو عن التلوّث البيئيّ، وإذا بالكاتب يستعرض كتابًا ضخمًا لمؤلّفه تيموتي فاينجارد عنوانه: " البعوضة، التاريخ الانسانيّ للمفترس الأشدّ فتكًا بنا".
هل تتصّورون بأنّ البعوضة أو النّاموس الحشّرة الصّغيرة جدًّا الّتي نسّميها أيضا الهسهسة نسبةً الى صوتها في الليل والّتي خاط الانسانُ النّاموسيّة للوقاية منها هي المفترس الفتّاك؟
يرى فاينجارد أنّ كلمات " بعوضة وملاريا وحمّى المستنقعات وموت" تترّدد طيلة التّاريخ البشّريّ، ويذكر قصّصًا وحوادث عديدة عن جيوش البعوض الّتي صدّت جيش جنكيز خان العرمرم عن جنوب أوروبا، ومنعت جيوش الصّليبيّين من السّيطرة على الأرض المقدّسة، وهزمت جيش نابليون عند أسوار عكًا، وساهمت في ميلاد مملكة بريطانيا العظمى، وشجّعت تجارة الرّقيق من افريقيا الى الغرب. ويذكر أن قادة مشهورين مثل صلاح الدّين الأيّوبيّ استعانوا بها على أعدائهم كما أن الجيش الفرنسيّ حفر قنوات وملأها بالمياه بعد أن أعلن قائده نابليون "علينا أن نقاوم الإنكليز بمساعدة الحمّى" وقد قضى وباء الملاريا في تلك المعركة على 4 آلاف جنديّ انكليزيّ.
ويؤكّد المؤلّف أن الخسائر البشريّة الكبرى من الملاريا كانت في افريقيا في القرن السّابع عشر أي مع بداية الاستعمار للقارة السّوداء فبينما أعدّ المستعمرون مناطق خاليةٍ من البعوض كي يعيشوا فيها تركوا السّود يموتون من الملاريا والمستنقعات، وأنّ باحثًا فرنسيًّا عنصريًا كتب يومئذٍ "من الواضح أن الله أراد أن يهِبَ السُودُ بلادَهم لشعوب جديدة".
كان النّاس في القرون الخاليّة يعتقدون بأنّ الأوبئة والأمراض تتوالد بنفسها في البيئة النّتنة وبقي هذا الاعتقاد سائدًا حتّى السّنوات الأخيرة من القرن التّاسع عشر حيث أُثبتَ علميًّا بأن البعوض هو الّذي ينشر وباء الملاريا القاتل.
وِفقَ حسابات فاينجارد فإنّ البعوض الّذي يسّميه المفترس "الفتّاك الأكبر" و"مبيد البشر" و"الوكيل المطلق للتّغيير التّاريخيّ" قد أباد 52 مليار دولار انسان.
نحن نعيش اليوم في غرفٍ مكيّفة لا وجود فيها لناموسَ أو بعوضة كما أنّ مبيدات الحشرات وتجفيف المستنقعات ساعدت على القضاء على البعوض في معظم البلدان ولكنّ هذه الحشّرة ما زالت تفتك سنويًّا بحوالي 800 ألف انسان في قارّة افريقيا.
الحياة الجديدة