سامر سلامة - النجاح الإخباري - ما زالت الأزمة الاقتصادية الحالية تراوح مكانها في ظل استمرار تعنت دولة الاحتلال وإصرارها على اقتطاع قيمة ما يصرف لعائلات الشهداء والأسرى من مخصصات مالية من موازنة الدولة الفلسطينية. وبالرغم من كافة المحاولات الدولية وعلى رأسها فرنسا راعية اتفاقية باريس الاقتصادية للخروج من عنق الزجاجة الا أن المبادرة الفرنسية باءت بالفشل. وبالرغم من النجاح الجزئي الذي حققته الحكومة الحالية بقيادة الدكتور محمد اشتية في هذا الملف، عبر التوصل لتفاهمات مع إسرائيل، من خلال إخراج ضريبة البترول المعروفة بضريبة البلو من فاتورة المقاصة والتي تقدر بثلث قيمتها، الا أن هذا الاختراق لم ولن يخرج البلد والحكومة من أزمتها المالية. فأمام هذا الواقع فان القيادة والحكومة لم تقفا مكتوفتي الأيدي، بل بدأ تنفيذ سلسلة من السياسات الاقتصادية التي من شأنها تخفيف حدة احتجاز أموال المقاصة وحرمان الاقتصاد الفلسطيني من أهم موارده المالية. فبدأت الحكومة بتقنين مصروفاتها، والعمل وفقا لموازنة طوارئ تعتمد على صرف ما هو ضروري جدا. كما أن الحكومة بدأت بتنفيذ سياسات اقتصادية واضحة نحو الانفكاك عن اقتصاد الاحتلال من خلال وقف التحويلات الطبية للمستشفيات الإسرائيلية، ووقف استيراد البضائع التي يتوفر لها بديل محلي فلسطيني، والانفتاح على الدول العربية لزيادة التبادل التجاري معها. حيث تم التوصل لاتفاقيات اقتصادية مع الأردن والعراق لاستيراد الكهرباء والبترول ومنتجات أخرى. ويستعد رئيس الوزراء لزيارة جمهورية مصر العربية على رأس وفد وزاري لبحث قضايا التعاون الاقتصادي مع مصر. ولم تقف مبادرات الحكومة عند هذا الحد بل بدأت بتنفيذ ما أطلق عليه خطة التنمية العنقودية، وتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص، وتشجيع المستثمرين الفلسطينيين في الخارج للاستثمار في بلدهم، وتعزيز وتطوير المدن الصناعية في أريحا وبيت لحم وجنين، وتقديم تسهيلات خاصة للرياديين الشباب والشركات الناشئة، وغيرها من المبادرات التي يمكن أن نطلق عليها «العلامة التجارية للحكومة الحالية». كل هذه السياسات والخطط والمبادرات يتم العمل عليها نحو الانفكاك الاقتصادي عن دولة الاحتلال وتعزيز الاقتصاد المحلي بمقومات ذاتية وموارد محلية غير مستغلة بالشكل المطلوب حتى الآن.
وفي المقابل فان إسرائيل تراقبنا عن كثب وتدرس سلوكنا وعواطفنا وطريقة تفكيرنا وتتابع نشاطنا وتبني تحركها بناء على نتائج تلك الدراسات. ففور الاعلان عن البدء بفك الارتباط الاقتصادي عن الاحتلال جاء الرد الإسرائيلي بدون مقدمات باجراء تسهيلات غير مسبوقة للتجار والعمال الفلسطينيين من خلال اصدار تصاريح تجارة أو عمل بشكل لافت. ولم تقتصر السياسة الإسرائيلية عند هذا الحد بل بدأت بتشجيع الفلسطينيين على إصدار البطاقات الممغنطة التي من خلالها سيتم إصدار تصريح غير ورقي للعمال والتجار. كما سيتمكن من هم فوق سن الخمسين عاما من دخول أراضي 48 بدون تصريح. كل ذلك بهدف زيادة ارتباط الإنسان الفلسطيني باقتصاد الاحتلال وبناء مجموعة مصالح يصعب تجاوزها أو إنهاؤها بقرار سياسي أو تنظيمي. الأمر الذي سيعزز ارتباط الإنسان الفلسطيني بمصالح شخصية مع دولة الاحتلال. فما هي نتيجة هذه السياسة؟ بالتأكيد ان إسرائيل وبحجة منع الفلسطينيين من الانخراط في أعمال المقاومة عبر تحسين حياتهم قد بدأت في جذبهم إليها وبناء منظومة متكاملة من المصالح الشخصية بين المنتفعين من تلك السياسة من الطرفين.
فالخطورة في هذه السياسة الإسرائيلية وفي ظل استمرار الأزمة الاقتصادية وخاصة أزمة الرواتب، أننا بدأنا في تلمس ازدياد توجه الشباب الفلسطيني للحصول على تصاريح عمل داخل الخط الأخضر. كما أننا بدأنا نلمس طلب بعض الموظفين الحكوميين إجازات بدون راتب للعمل داخل الخط الأخضر بحجة أن هناك فرصة تاريخية لتحسين أوضاعهم المالية في ظل الأزمة الحالية. والأخطر من ذلك أيضا أن العديد من طلبة التوجيهي والجامعات قد اعتكفوا عن التسجيل في الجامعات أو انسحبوا من الجامعة بهدف التوجه للعمل داخل الخط الأخضر أو في المستوطنات. فأمام هذا الواقع ما هو المطلوب؟
حتى لا نكرر أخطاءنا السابقة وحتى لا نقع في تجارب فاشلة سيكون لها انعكاساتها السلبية على مجمل الأوضاع الاقتصادية، لا بد من العمل وبشكل سريع وممنهج على تطبيق خطة التنمية العنقودية التي أعلن عنها رئيس الوزراء. هذه الخطة تتطلب إنشاء شراكات وشركات بين القطاعين العام والخاص والتوصل الى اتفاق خاص مع المؤسسات المصرفية لتساهم بشكل كبير في تمويل هذه الشراكات والشركات من منطلق زيادة استثمار تلك المؤسسات داخل فلسطين بدلا من استثمار أموالها في الخارج. فالأقرباء أولى بالمعروف. ومن ناحية أخرى لا بد من تنظيم العلاقة الاقتصادية مع الداخل، فضمن الظروف الحالية والواقع الذي نعيشه فان المطلوب تنظيم كل أشكال العلاقات الاقتصادية والعمالية مع دولة الاحتلال، فان الانفكاك لا يعني المقاطعة الشاملة والكاملة، لأن المقاطعة الكاملة غير ممكنة في ظل استمرار الاحتلال واستمرار ارتباط العديد من التجار والعمال في علاقات اقتصادية مع تجار ومشغلين إسرائيليين. وهنا لا بد من العمل على الاستفادة من تطبيق بروتوكول باريس الاقتصادي وخاصة البنود التي تخدم مصالحنا الاقتصادية، ومن ثم العمل من خلال فرنسا لفتح مفاوضات حول تطوير هذا البروتوكول وتعديله بما يتناسب والمصلحة الفلسطينية. وثانياً لا بد من ايجاد أفضل السبل لتشجيع المنتج المحلي، فالمطلوب هنا تغيير في منهجية العمل. فبدل إعلان المقاطعة، هذا الموضوع المتعثر حتى الآن، علينا العمل على تشجيع المنتج المحلي من خلال تطوير جودة هذا المنتج وتقليل أسعاره للمستهلك الفلسطيني. هذا بالإضافة الى القيام بحملات خاصة بتشجيع استهلاك المنتج المحلي في المدارس والأسواق العامة. ونحن قادرون على ذلك ويمكن إحداث اختراق نوعي على صعيد زيادة حصة المنتج المحلي في السوق الفلسطيني. فعلى سبيل المثال فان تشجيع أصحاب المحلات التجارية لتخفيض أسعار المنتجات الفلسطينية فقط وليس الإسرائيلية سيزيد من استهلاك المنتج الفلسطيني على حساب المنتج الإسرائيلي. إذ لاحظنا في الآونة الأخيرة أن الحملات الترويجية لكبرى مخازن البيع بالتجزئة تعمل على تخفيض أسعار المنتجات الإسرائيلية، الأمر الذي يزيد من استهلاك تلك المنتجات من حيث لا ندري!! فالمطلوب خطة فلسطينية ذات إسناد شعبي لزيادة وتعزيز المنتج المحلي وفرضه كبديل طبيعي لمنتجات الاحتلال. ومن هنا نبدأ مسيرة الألف ميل للخروج من عنق الزجاجة بالانفكاك التدريجي عن اقتصاد دولة الاحتلال وبناء اقتصاد محلي مقاوم.
الايام