عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - قبل عدة سنوات التقيت بأحد القيادات الوطنية العريقة، وكان الرجل خارجاً لتوّه من السجون الإسرائيلية.
كان اللقاء بناءً على طلبه، وأراد مني أن أوصل الرسالة التي أبلغني إلى قيادات السلطة والمنظمة وقادة الفصائل.
مفاد رسالته هو أنه من خلال "حوارات" طويلة ومعمّقة مع قيادات وكوادر حركة "حماس" في العديد من السجون الإسرائيلية، وفي مستويات مختلفة، وحول كل قضايا ومفاصل العمل الوطني، بما في ذلك الهوية الوطنية، والمشروع الوطني، والتحرر الوطني والاجتماعي، وقضايا الدين والدولة والمجتمع، والمسألة الديمقراطية، والمشاركة والشراكة الوطنية والمقاومة والعملية السياسية.. فقد خلص إلى نتائج سماها: "مرعبة"، وخطيرة إلى أبعد الحدود.
وأكد أن ما لا يقل عن نصف الأعداد الكبيرة التي التقاها وتحاور معها، ومن مستويات مختلفة، هي تكفيرية من حيث الجوهر، ومن حيث مضمون ما تطرحه من أفكار وتوجهات، وما تقترحه من سياسات، وهي لا تعير أي أهمية لقضايا الهوية والبرنامج الوطني، والتمثيل الشرعي للمنظمة، ولا ترى أي آفاق للتعاون الوطني، إن لم نقل للشراكة الوطنية، ولا تؤمن لا بالديمقراطية ولا بالعقلانية والواقعية، وهي ترى أنه، بإقامة إمارة إسلامية منفصلة في غزة أو غيرها "الحل" الوحيد لإعادة "هندسة" المجتمع وفق الرؤية "الإسلامية"، وأن هذا هو السبيل "الوحيد" للحل السياسي والاجتماعي والثقافي لقضايا التحرر الوطني (من الاحتلال) والتحرر الاجتماعي (من العلمانية)، وأنه لا مكان للتعددية فيها.
أما النصف الآخر من تلك القيادات والكوادر، فهو يختلف مع هذا النهج ليس من حيث "أحقية" الأفكار والمعتقدات، وإنما من حيث "القدرة" على العمل وفقها ووفق الفكر الذي تمثله، وأن فئة قليلة وقليلة جداً ترى أن هذا الفكر "ربما" يكون ويمثل خروجاً سافراً عن "الوسطية"، وهو الأمر الذي يضع الكثير من علامات الشك على "أحقية" العقيدة المتشددة، وعلى كامل منظوماتها الفكرية والسياسية والثقافية.
وعندما تحدثنا ببعض المفاصل والتفاصيل (لم يتردد الرجل في التأكيد على أن جزءاً من تكفيريي [النصف الأول من القيادات والكوادر] هم على استعداد "للعمل المباشر" وفق منظورهم الخاص وليس بالضرورة وفق منظور حركة "حماس" كما يتم "تسويقه" للناس والفصائل.
نقلت هذه الصورة القاتمة للقيادات كلها ودون استثناء، وشرحت خطورة الأمر على المشروع الوطني والشراكة الوطنية وعلى السلم الأهلي، وخطر تحول هذا الأمر إلى حالات وظواهر "داعشية" في قادم الأيام في القطاع تحديداً.
فوجئت كثيراً من ردود الأفعال.
البعض اعتبر ذلك قراءة فيها مواقف مسبقة تؤدي إلى "المبالغة"، والبعض الآخر قلل من أهمية "الظاهرة" "الداعشية"، واعتبر أن حركة "حماس" تمسك بزمام الأمور على المستويات الفكرية والثقافية، وأن الحوارات شيء والواقع القائم في قطاع غزة شيء آخر.
قلة قليلة أكدت صحة انطباعات القائد الوطني العريق، بل وأثنت على استنتاجاته، واعتبرت أن تشخيصه هو الأقرب إلى الدقة، وإلى تلمُّس الواقع.
أراد الرجل أن يقول إن "السلفية الجهادية" أو "الداعشية" تعشعش في البيئة الفكرية والثقافية لحركة "حماس"، وأن محاولة التغطية على هذا الواقع بالذات بوساطة بعض "اللمسات" السياسية الواقعية، أو حتى بعض الشذرات الفكرية "المعتدلة" لن تغير من "أخطار" القادم على المجتمع الفلسطيني عموماً وعلى القطاع تحديداً.
حكم حركة "حماس" لم يتمكن على مدى كامل سنوات الانقسام الذي أفرزه الانقلاب على النظام السياسي الفلسطيني من حل أي قضية من أي نوع كان. فالأمن الذي تدّعيه حركة "حماس" هو أمن قائم في جوهره وأساليبه، وتبريراته، وفي ذرائعياته والترويج له ومحاولات تسويقه على التسلط والقمع.
والقضايا الاجتماعية والمجتمعية والمطلبية والحقوقية لا يُنظر إليها إلاّ من زاوية أمن حركة "حماس"، وأمن حكمها وتحكمها بالقطاع، أو لنقل بأن أولوية النظرة هي أولوية أمنية.
وفي السنتين الأخيرتين، انتقل مشروع المقاومة برمّته إلى نفس هذا الحيّز والمساحة والاعتبار، وقد أخضع بالكامل لمتطلبات الحكم والتحكم.
وتحولت قضايا "بدنا نعيش" إلى قضية "تهديد وجودي" لهذا الحكم وهذا التحكم، وتم قمع الحركة الشبابية بكل عنف ودون أي تردد.
وبالمقابل اكتشف المئات وربما الآلاف من داخل صفوف الحركة ومن هوامشها، أن التهدئة بالشروط الإسرائيلية المخففة هي مطلب لـ "حماس"، وأن "أموال" قطر تحولت إلى هدف استراتيجي لمسيرات العودة، وأن "الحكم الإسلامي" ليس ضمن برامج "حماس" وليس ضمن إمكانياتها وتوجهاتها، وأن كل ما هو مطلوب بقاء الحكم والتحكم بأي ثمن، وبأي ذريعة، وبغض النظر عن الوسيلة والأداة.
باختصار تتراكم مآسي القطاع، وتتعمّق دون أفق سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، وكل السياسات والتدابير هي لتأكيد هذا الواقع، وإبقاء الحالة الوطنية والمجتمعية كلها في القطاع رهينة وحبيسة لمشروع الحركة الذي هو "مشروع خاص للجماعة" يرفض الانخراط في المشروع الوطني الشامل، وليس بوارد إقامة الإمارة الإسلامية المتخيلة.
هذه هي بالضبط لحظة انفجار الأزمة المحتومة بين فكر كان "يهدئ خواطر" القواعد والكوادر ويخدّر الجماهير بالمقاومة ومشروع المقاومة، وبين التضحية بهذا المشروع ورهنه بالكامل لصالح مشروع سلطة واهنة تعتاش على "الإغداقات الخارجية" المشروطة، وأولها المشروطية الإسرائيلية.
لهذا كله فالأمر لا ينطوي لا على مؤامرة، ولا على نبت شيطاني، والتفجيرات الأخيرة مع الأسف الشديد هي إيذان بحرب قادمة بين من عاشوا على "أمل الإمارة الفاضلة" وبين من يعيشون على حساب لقمة عيش المواطن في غزة وعلى حساب حريته، وكامل مستقبله.
القطاع سينقل لا محالة من الظلم إلى الظلامية، ومن العوز والفقر والافتقاد إلى أدنى متطلبات الحياة اليومية إلى خطر انهيار الأمن فيه. إلا إذا جرى وبسرعة فائقة الهروب من مستنقع الانقسام.
الايام