تحسين يقين - النجاح الإخباري - تعيدنا الأغنية إلى التأمل بعمق تاريخي وإنساني، اجتماعياً ونفسياً واقتصادياً وثقافياً وفنياً وغنائياً تجاه أهم علاقة في حياة الإنسان، ألا وهي علاقة هو-هي، التي تفرعت عن علاقة هي-هم، وصولاً لاختيار المرأة للعلاقة الأحادية لما اختبرته من صنوف التعدد، أي ما عرف بالزواج، والذي كان أصلا قبل الأديان بفترة طويلة. ولعل ما يعرفه الكثيرون/ات أن ذلك الاختيار النسويّ تحديداً لم ينشأ عن قوانين أخلاقية، بقدر ما كان باعثه الاستقرار والصحة.
ثمة علاقة ما بين السلوك وما تقدمه البيئة من ممكنات، ولعل التاريخ التكنولوجي ليس ببعيد عن التاريخ الإنساني العام ومنه التاريخ الاجتماعي، ونقصد به هنا علاقة الرجل-المرأة.
وبالطبع فقد واكب الأدب والفن كل ذلك؛ تعبيراً وانعكاساً، نقداً وناقداً، ومرآة، فكل وما وجد من دور يقوم به، التزاماً ورأياً.
ولعله تلك هي التحولات، سبباً وظروفاً وتجليات في حياتنا أفراداً وجماعات.
وعود على البداية، فإن علاقة الرجل والمرأة هنا، في موضوع الأغنية، هي علاقة الرباط الوثيق الموثوق، وما يرتبط من وجود أسرة، تشكل اللبنة الأساسية لاستقرار المجتمع.
لقد وفقت الفنانة هالة هادي في اختيار كلمات أغنيتها الجديدة، التي تدل على وعي مقرون بالتزام الفن تجاه المرأة الأم، وتجاه أي امرأة، وتجاه الأسرة.
لقد استهلت الأغنية بإثارة التشوق:
"انا بالأربعة
انا ملكة في قلبك متربعة
يا حبيبي انا وحدي لكن بأربعة"
وهي من خلال تداعيات "الأربعة"، ومن خلال الفيديو المصاحب، تحيل الى الأربع نساء التي يسمح للرجل بالارتباط بهن.
وهنا تتابع الأغنية بتحد إنساني جميل، بمراوغة، ما بين دلالة الصورة البصرية، التي تشير إلى المعنى.
"وأنا بتحداك لو جيت تختار
حدوب في جمالهم وحتحتار"
ثم تتابع، ولكن في السياق نفسه، مؤكدة على ما ذهبت له.
"شوف لما يعيش أربعة حواليك
حتحب بقلبك ولا بعينيك
يا بختك بقى لو رضيوا عليك
ما تعدش بقى لأنهم حيزيدو عليك اربعة"
إذن فإن المقصود هو ارتباط الرجل أو سعيه للارتباط بأكثر من امرأة.
"انا بالاربعة
وما فيش ولا واحدة مش باربعة
انا بالاربعة
واكتر بكتير لو ندلع"
وهنا، يتعمق ما بدأنا به، وقد أوحى به الشاعر الغنائي بهاء الدين محمد إيحاء جميلا في المقدمة:
"انا بالاربعة
انا ملكة في قلبك متربعة
يا حبيبي انا وحدي لكن باربعة"
وهنا نعيد قراءة العبارة التي افتتحت فيديو الأغنية: "من كل امرأة زوجة وأم، لو عايز تبصبص ما تبصبص: أنا بالأربعة" مع رمز ابتسامة.
لعل العبارة تحسم الأمر، إلى عدم اضطرار الزوج للتعددية!
أي أنها تسدّ، وتغني (الرجل-الزوج) عن الأخريات التي لربما يسعى تجاههن، في ظل ممكنات العصر من وسائل اتصال، حيث يظهر الفيديو "الشات".
إنه وعي المرأة لذاتها ولجنسها، وهو وعي مقدّر للنساء:
"أنا بالأربعة
وما فيش ولا واحدة مش بأربعة"
ولعل الشاعر ذهب بمضمونه الى أبعد مدى، حين ذكر على لسان المرأة، أنها كزوجة وحبيبة لا تسدّ مسد أربع نساء فقط، بل وأكثر بكثير، خصوصا لو وجدت من يعتني بها ويرعاها، ويدللها:
"انا بالاربعة
واكتر بكتير لو ندلع"
تؤكد الأغنية على معان سامية وملتزمة، وتنتصر للمرأة التي تعرف دورها في الفضاءين الخاص والعام؛ فهي المحبة والجميلة التي تحضر في البيت بحنانها وعطائها، وحبها لشريكها، وهي الموظفة-العاملة خارج البيت.
جمال الأغنية وحيويتها وتصالحها رغم المعاني النقدية للرجل هو في الانتصار للأسرة النووية: أب وأم وأطفال، عمادها الرابطة القوية-المقدسة بينهما، تلك التي تشكل حاضنة الأمان للبيت والمجتمع.
جميل مسعى أغنية "أنا بالأربعة"، في الالتزام نحو صون الأسرة، وصون علاقة الحب التي تجمع الزوجين، بعيدا عن النزوات التي تؤثر سلباً على الجميع.
وهل هناك ما هو أجمل من استمرار الحب-المحبة، المودة والرحمة والإنسانية، و"العشرة" واستحقاقاتها؛ فكأن الأغنية جاءت في وقت بدأنا نشهد فيه التأثيرات السلبية لتكنولوجيا المعلومات المتنوعة على الأسرة؛ حيث بدلاً أن يشكل "التواصل الاجتماعي" تقوية لهذا التواصل الإنساني، فإنه للأسف يعمل على نسفه.
وهل هناك أجمل من الأبوة والأمومة، وكنا نود لو حضر الأب في الفيديو، حيث ركزت المخرجة "لانا" على الأم في فضاء البيت والمجتمع.
فنياً: جميل أن تعود الفنانة هالة هادي بهذا النضج والجمال كعهدنا بها منذ أواخر الثمانينات، حيث أنها هي من أطلق على الفن الملتزم "الزمن الجميل"، واستطاعت في بداياتها لفت نظر الموسيقار العبقري بليغ حمدي، الذي لحن لها أغنية "لا يا حبيبي" وهي في السادسة عشرة من العمر.
تعانق الصوت مع اللحن، للتعبير عن الكلمات التي أفردنا لها حديثا خاصا، ولم يكن لهذا الجمال أن يحضر لولا بحث الفنانة هالة هادي عن الصوت الخاص والتنغيم الذي يعبر عن حنان الأم في البيت مع طفليها، ووجودها خارج البيت في الفضاء العام، بحيث يمكن الادعاء أن الأغنية إبداعية شكلاً ومضموناً. وهي مثال على إرادة الفنان/ة في الانتصار للجمال والالتزام الفني.
وتأتي الأغنية وفق روح العصر الموسيقي السريع، ولكن في ظل لحن جاد وجميل للفنان الملحن "مدين"، يبرز جمال الصوت نفسه من جهة كذلك صوت الجوقة الصغيرة الجميل والرقيق الذي أضفى جمالاً على الأغنية، وسلاسة اللحن وجماله من جهة أخرى، بحيث نكرر الاستماع للاستمتاع، فبالرغم من قيادة الإيقاع لمسار الأغنية من البدء الى النهاية، إلا أن الموسيقى الأخرى تواجدت مثل موسيقى آلة السكسوفون وغيرها، وهذا نتاج تعاون بين الملحن والموزع الذي لا يقل إبداعاً وهو المايسترو الذكي طارق عبد الجابر.
لقد عكس الشكل الموسيقي بنجاح وعبر عن المضمون الإنساني بجمال وحيوية، كان قادرا على جذب المستمع/ة، نحو موضوع حكاية أُم نجحت في الجمع بين حيّز البيت، والفضاء العام لممارسة دورها الإنتاجي والمجتمعي؛ حيث لا تناقض بين الدور الإنجابي وبقية الأدوار في حياتها كعاملة وذات دور مجتمعي وسياسي عام. ولعل الأغنية مجال تعميق التربية على أدوار النوع الاجتماعي (الجندر).
بصرياً، نجحت المخرجة "لانا" على مدار بضع دقائق في التعبير عن مضمون الأغنية، مضفيةً عليها أناقةً ومرحاً وحساً كوميدياً، فيه نقد للرجل، لكنه ليس حدياً بل تصالحي، أي أن المشهد التمثيلي أكد على الحب والأسرة، للجمع لا للتفريق، للصون والتفهم، والأهم وعي المرأة لأدوارها المختلفة دون أن تنسى الجانب الجمالي، حيث أن الاعتناء بالجمال هو بيت قصيد استحقاقات وشروط ضمان العلاقة، من وجهة نظر موضوعية، وفهم عميق للمرأة الأم زوجةً وحبيبة.
وليس عبثاً أن تبدأ بتصوير الفنانة كعروس بخلفية البحر، ثم الانتقال إلى أُم حامل، تجهز ملابس المولودين الجديدين التوأمين، مع اقتراب الولادة، ثم العناية بالطفلين، الفطور والاصطحاب الى المدرسة، فوجودها في مكتبها، وعودة الى البيت واسعاد الطفلين، ووفقاً لما ذكرنا من أدوار واهتمام بالجمال الشخصي، فقد استطاعت المخرجة إظهار أناقة الأم، فلم تذهب جديتها وعملها وكونها أمّاً تلك الأناقة وذاك الجمال.
وبشيء من المرح والنقد، أظهرت المخرجة أسلوب المرأة الحاسم والجاد في التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضي، والواقع العادي، بحيث تركتنا في النهاية بابتسامة وتشوق، في معرفة هوية من تحدثت معه، ما إذا كان زوجها أو معجباً، أو أنها تقوم بانتحال شخصية امرأة أخرى لتؤكد لشريكها وهمَ ما يفكر به من إقامة علاقات، أو غير ذلك، من سرّ تحاول فكّه.
إننا إزاء فنانة "الزمن الجميل" الذي سيظل جميلاً!
Ytahseen2001@yahoo.com