عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - من رجفة الموت، ورهبته، ومن الخسارة الفادحة المترتبة عليه، ومن الخوف منه، وترقبه بقلق بالغ.. بدأت تأملات الإنسان.. منظر الشخص المتوفى يثير في النفس الشجون والأحزان، ويطلق مخاوفها.. بمجرد أن ترى ميتا، تسري في عروقك قشعريرة غامضة.. وتنتابك المخاوف، وتبدأ الأسئلة تلح عليك.
ماذا يعني أن يموت شخص ما؟ ماذا سيحل بروحه؟ وأين ستذهب طاقته الكامنة، منجزاته، أحلامه، همومه، ذكرياته؟؟
تلك أسئلة صعبة، وتحتمل ما لا حصر له من إجابات.. ولأنّ كل ما هو بعد الموت يندرج في قائمة الغيبيات، ولا توجد عند أحد إجابات قاطعة ببراهين مادية... ولم يعد أحدٌ من الموت، ليخبرنا ماذا حلّ به.. لذلك، ظل الموت منطقة مجهولة، تحيطها الأساطير، كما مثّل نقطة ضعف إنسانية.. ومن الموت، وحوله، بدأ الإنسان الأول بصياغة أول معتقداته وتصوراته، وفلسفته البسيطة، والتي تطورت فيما بعد لتشكل النواة الصلبة للدين.
كانت إحدى وظائف الدين الأساسية في تلك المرحلة، الإجابة عن أسئلة الموت، ومعنى الحياة، وجدواها، وكيف نعوّض خسارتها، وكيف نلتقي مع أحبتنا الذين غادرونا مبكرين.. وقد وجد الإنسان ضالته آنذاك بفكرة الحياة ما بعد الموت، ليمثل الخلود من خلالها، وليواسي خيبته من فكرة تحوله إلى رماد منثور، بلا قيمة، بعد أن كان يملأ الدنيا، بأحلامه ومشاريعه، وتجاربه.
وفيما بعد، صار للدين وظيفة أخرى: هندسة الحياة الاجتماعية، والتي كانت ضرورية لتغدو الحياة ممكنة، فكان من أولى القضايا التي اهتم بها الدين: الجنس؛ تنظيمه، وتقييده، وفرض قوانين لكل ما يتصل به من قضايا.
وسرعان ما استخدم الدين كأداة قمع وإرهاب فكري واجتماعي، لفرض هيمنة القوى والنخب المسيطرة، وتثبيت امتيازاتها، ولفرض النظام الاقتصادي الطبقي، ولتنظيم وشرعنة العبودية، وفي مرحلة لاحقة الإقطاع.. ولتثبيت ركائز النظام السياسي، وفرض سيطرته على المجتمع.
ذلك هو المسار السيسيولوجي الذي سار عليه تطور الأديان على مر العصور، أي المسار التاريخي، البشري، وهذا يختلف عن جوهر الدين، وروحه، ومقاصده الأصلية، ومبادئه.. أي بحسب ما بشَّر به الأنبياء.. وقد شرحنا في مقالة سابقة، كيف تكونت طبقة رجال الدين، وكيف نهج هذا المسار التاريخي.. إلى أن انتهى بها الأمر، بتكوين شرائع وأيديولوجيا مختلفة عن الدين الأصلي.
في هذا المقال، سأسلط الضوء على أداتين، استخدمها رجال الدين، لضمان سيطرة النخب الحاكمة على المجتمع والدولة، هما: بكائيات خطيب الجمعة، وبكائيات الحسين.
تقريبا، لا يوجد تجمع للمسلمين، في معظم بقاع العالم، مهما كان هذا التجمع صغيرا، إلا ولديه مسجد.. والناس تؤم المسجد يوميا، وفي يوم الجمعة، معظم الناس يتجهون للمسجد لأداء الصلاة، والاستماع لخطبة الجمعة.. هذا الأمر يحصل منذ 14 قرنا وأزيد، دون توقف، وفي كل مكان.
لا توجد لأي ديانة أخرى مثل هذه الميزة، ولا حتى للأحزاب الشمولية الحاكمة؛ أي تجمّع الناس في مكان محدد، بانتظام، دون دعوة أو تذكير من أحد، يذهبون للمسجد بقلب مفتوح، وعقل جاهز للتصديق، والتسليم بكل ما سيقوله خطيب المسجد.. وهذه قوة هائلة، لو أُحسن استخدامها، بوسعها إحداث تغيير كوني، بوسعها إسقاط حكومة في يوم واحد.. بوسعها خلق رأي عام عالمي، بل خلق تيار جماهيري جارف.. وهذه القوة بيد الخطيب، ومن سيملي عليه أقواله.
كيف، ولماذا لم يستطع المسلمون إحداث التغييرات التي ينشدونها هم أنفسهم؟ كيف اختفت هذه القوة الجماهيرية المهولة؟ ومن الذي أخفاها؟ أو سحب منها سر قوتها؟ الجواب بكل بساطة، في محتوى ومضمون ما يقوله خطيب المسجد.. وهذا يرتبط بأسلوبه ومنهجه، أي أسلوب الخطابة والصراخ، والهياج العاطفي، وتغييب لغة العقل، وتغييب القضايا الأساسية التي تهم المجتمع.
عندما يجتمع مليونا مسلم عند الكعبة في موسم الحج، يستطيع خطيب الحرم بكل بساطة تحييد هذه القوة الجماهيرية المخيفة، بل واحتواءها، وتوجيهها حسب ما يريد (أو ما تريد السلطة الحاكمة).. وذلك بالبكائيات.. أي قراءة القرآن بصوت متهدج، وتصنّع البكاء والخشوع، والدعاء بأنفاس مقطوعة، لاستغلال عواطف الناس الدينية، واستغلال حاجاتهم الإنسانية التي أتوا من أجلها، واستغلال نقاط ضعفهم في تلك اللحظات الخاشعة.. فيصور لهم أنهم ذاهبون إلى الجحيم، وأن الله غاضب عليهم.. ثم يبدأ بالدعاء لأولي الأمر بأن ينصرهم ويقويهم (معروف من هم أولو الأمر)، وأن ينصر (المجاهدين) في كازاخستان، والفلبين، وسورية والعراق وفلسطين (والمقصود بالمجاهدين الميليشيات التي تموّلها دول النفط).. ومن جهة ثانية، بالدعاء على خصومه (المفترضين): اليهود، والنصارى، ويضيف إليهم الشيعة، وكل من هم خارج نظامه الفكري الأيديولوجي.
وهكذا، يتم إسكات الجموع، وتخديرهم، واحتواؤهم، وتسويق الأيديولوجية السلفية لهم.
هذا يحدث بصورة مصغرة في معظم المساجد، من جاكارتا شرقا حتى كاليفورنيا غربا.. صرف أنظار الناس عن قضاياهم الجوهرية: المظالم، والفساد، والاحتلال، والتبعية، والطبقية، والاستغلال، والبطالة، والفقر، والتخلف، والاستبداد.. والتركيز على عذاب القبر، وما يجب أن تلبسه النساء، وأنّ الخلاص في الآخرة.
في المذهب الشيعي يدفع المسلم خُـمس دخله لآل البيت، أو من يمثلهم، أي الحوزة، أو المرجعية الشيعية، وهذا الخُمس مبلغ ضخم جدا، يفوق موازنات دول كبرى.. وهذه الأموال عبارة عن أرباح أسهل وأضمن تجارة في التاريخ؛ التجارة بالدين.. ولكي تدوم هذه التجارة، لا بد من تجديد الوازع الديني، في كل مناسبة، وكلما زادت المناسبات الدينية تعمقت وتوطدت هيمنة الحوزة على مشاعر الناس، وبالتالي ضمنت ما ستدره جيوبهم.
في الجيوش، والمدارس، يتم رفع علم البلاد كل صباح، وترديد النشيد الوطني.. فما الحاجة إلى ذلك؟ هل نسي الجنود والطلبة أهمية العَلَم بهذه السرعة؟ بالتأكيد لا، ولكن الفكرة تعميق الشعور بالارتباط، وتوثيق الصلة، وتجديدها كل صباح، لغرز قيمة تلك الرموز، وإعلاء شأنها في الوجدان، حتى تستقر في العقل الباطني.. وهذا بالضبط ما تفعله المؤسسة الدينية، من خلال إحياء ذكرى مولده الحسين، واستشهاده، وأربعينيته.. وكذلك بقية الأئمة.. بالبكاء، والنحيب، واللطميات، وتأنيب الضمير، وتعذيب النفس (أي بالابتعاد عن المشاكل الحقيقية).. هذا يجري كل سنة، منذ قرون عديدة، لتجديد قوة هذه الأداة وتأثيرها على الأجيال الجديدة، أو بعبارة أدق: لضمان ديمومة نهر الأموال المتدفق.
في كل مرة، يتم الضرب على الوتر الحساس؛ على نقاط الضعف الإنسانية.