عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - في مقالة سابقة تحدثتُ باختصار عن مذهبين للرأسمالية، هما: المنفعة والبرغماتية (الأيام، 16-8-2017)، وهذان المذهبان كانا تعبيرا عن الطابع العملي لعصر التصنيع، وعن فلسفة الأخلاق المبنية على حسابات المنفعة، والتي جسدتها "المكيافيلية"، أشد نزعات المجتمع الرأسمالي تطرفا، التي جعلت من كل نشاط إنساني (بما في ذلك القيم والمبادئ) مجرد سلعة تنطبق عليها قوانين السوق.
وفي هذا السياق تحدثنا عن توحش الرأسمالية، وسلبها القيم الإنسانية، والتي نجم عنها ظاهرتا الاغتراب، والثقافة الاستهلاكية.
في هذه المقالة سأتطرق لثلاث مثالب أخرى، ربما كانت هي أسوا ما أنتجه النظام الرأسمالي.. ولا شك أنَّ للرأسمالية مثالب أخرى..
"الجريمة"، وقد باتت سمة ملازمة لمعظم البلدان الصناعية، حيث تزداد فيها معدلات الجريمة ارتفاعا عاما بعد عام. ولا يمكن لأحدٍ أن يزعم أنَّ ظاهرة الجريمة وليدة النظام الرأسمالي، إذ إنها ظاهرة قديمة، قِدم المجتمع الإنساني؛ ولكن الاتساع الهائل في نطاق الجريمة، وتطور أساليبها، تولّد فعليا عن المجتمع الرأسمالي عندما بلغ أقصى درجات نموه، بدليل أنّ أكثر الدول الرأسمالية تقدما، هي التي تنتشر فيها الجريمة بأعلى النسب، وبأشد أنواع التنظيم والتدبير إتقانا. (وهذا الموضوع بحاجة لمزيد من البحث).
المثلبة الرابعة، "الديون"، والتي تستخدمها الرأسمالية مخالب وأنيابا، تنهش بهما جسد المجتمعات الإنسانية بلا رحمة، من خلال "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي". وهاتان المؤسستان مثّلتا الأداة الرئيسة لربط اقتصاديات بلدان العالم الثالث بعجلة الدول الإمبريالية، وفي مقدمتها أميركا؛ لإعادة إخضاعها، وتسهيل عمليات نهب ثرواتها، وعرقلة نمو قواها المنتجة، وتكريس تبعيتها للغرب، من خلال إغراقها في الديون الخارجية، وما يترتب عليها من فوائد.
وإذا كانت الديون الخارجية عنواناً لأزمة الدول النامية، فإن الديون الداخلية أصبحت عنواناً لأزمة خطيرة باتت تعاني منها الدول المتقدمة نفسها، وقد أكد ماركس أن الأزمات التي تلاحق وتصيب النظام الرأسمالي هي أزمات فائض الإنتاج. ولكن الأزمات الحالية التي تعيشها الرأسمالية هي أزمات مالية. وأهمها ظاهرة الدين الحكومي العام بأرقامها الفلكية، والتي تفاقمت مع اندلاع الأزمة المالية العالمية منذ العام 2008، فمثلا الولايات المتحدة، وهي أغنى دولة في العالم، يبلغ دينها الحكومي نحو 15 تريليون دولار. وأرقام الدول الأوروبية شبيهة بالرقم الأميركي.
وفي مقالته أوضح نعيم الأشهب أنَّ الدين الحكومي سببه تراكم العجز على مدى سنين؛ فالعجز في الميزانية الأميركية، مثلا، راح يقفز بمعدل تريليون دولار سنويا، منذ بداية القرن الحالي؛ وسبب ذلك في الأساس، زيادة الإنفاق العسكري والمغامرات العسكرية في الخارج.
وبسبب طبيعة أخلاقيات النظام الرأسمالي، فإنه عادة ما يلجأ للهروب للأمام من خلال بعض الحلول الترقيعية لمواجهة هذه الأزمة، وأهمها خفض النفقات الحكومية من المخصصات الاجتماعية والصحية حصرا، وعدم التعرض للنفقات العسكرية والأمنية، والامتناع عن رفع سقف ضريبة الدخل على الرأسمال الكبير. ما يعني أنَّ هذه الحلول غالبا ما تكون على حساب المواطن البسيط، وعلى حساب الأجيال القادمة.
وأوضح الأشهب أن الدولة الرأسمالية بعد أن تتفاقم أزماتها وتعجز عن تمويل ميزانياتها، لا يبقى أمامها إلاّ الاقتراض والمزيد من الاقتراض، إلى جانب المزيد من الاعتصار لدافع الضرائب، وتحميل المواطن أعباء دين الدولة المتصاعد، لتمويل ميزانيتها المأزومة؛ فكلما تفجرت أزمة اقتصادية، تهبّ الحكومات على الفور لإنقاذ "المتسبب بالأزمة"!! وليس إنقاذ المواطن دافع الضريبة؛ بل على حسابه. وحتى في عملية الإنقاذ هذه، تكون الأفضلية للمؤسسة الرأسمالية الأكبر، والتضحية بالأصغر عند الضرورة.
المثلبة الخامسة، وربما كانت الأهم والأخطر، تمثلها الحرب؛ ولا يكفي أن يقال إن الرأسمالية عاجزة عن منع الحرب، أو إنَّ الحرب مرض يصيبها بسبب انتقال العدوى إليها من مصدر خارجي؛ بل إن الحرب تنتمي إلى صميم بنائها وتركيبها الباطن، وهي سمة ملازمة للرأسمالية، ونتاج حتمي لها.
وقد مثلت الحرب العالمية الثانية أسوأ نموذج لصراع الرأسماليات فيما بينها، إذ قُتل في هذه الحرب المجنونة أزيد من 50 مليون إنسان، أغلبهم من المدنيين الأبرياء، وكان الموت الذي أمطر من السماء حينها محمّلا على قذائف متفجرة بلغت قوتها التدميرية 2 ميغا طن.
في الماضي عندما كان البشر يعيشون في مجموعات صغيرة، وكانت أسلحتهم بدائية، لم يكن المحارب حتى في ذروة غضبه قادرا على قتل أكثر من عدد بسيط من أعدائه، أما اليوم، فبفضل التقدم التكنولوجي الذي أحرزته الرأسمالية صارت الحرب الواحدة توقع أعدادا هائلة من القتلى. فإذا كانت قنبلة هيروشيما – التي خلّفت مائة ألف قتيل - تعادل 13 ألف طن ت.ن.ت، فإن القنبلة النووية الحالية تعادل قدرتها 15 مليون طن ت.ن.ت، وإذا ما نشبت حرب نووية عالمية فإنها قادرة على قتل 100 مليار إنسان، أي 15 ضعف عدد سكان الأرض. (كارل ساجان، الكون، دار المعارف).
وقبل الحروب العالمية (والإقليمية والأهلية) مثلت حقبة الاستعمار أبشع مثال لما يمكن للحرب أن تعنيه من حيث أسبابها، وأدواتها، ونتائجها..
ورغم معاناتها من مثالب الرأسمالية، إلا أن البشرية دشنت عصرا جديدا، إن كان بحد ذاته امتدادا للرأسمالية، إلا أنه يختلف عنها في بعض جوانبه، إنه عصر العولمة، والنيوليبرالية.
فقد تفاقمت الأزمة الاقتصادية العالمية؛ متأثرة بالتحولات العالمية الكبرى، وتغير وسائل الإنتاج، والثورة العلمية، وثورة الاتصالات والتكنولوجيا.. والعديد من الدول الغنية، التي كانت تقدم خدمات عديدة للمواطنين (صحة، تعليم، حقوق عمال، رعاية الشيخوخة والطفولة..)، بدأت بالتخلي عن مفهوم "دولة الرفاه"، والتحول إلى نمط الاقتصاد النيوليبرالي؛ فبدأت الحكومات بالانسحاب التدريجي من تقديم الخدمات الاجتماعية، وراحت تخفض الإنفاق الحكومي في هذا المجال، وتحرر السوق من هيمنة الدولة، وتتبنى سياسات خصخصة القطاعات الحكومية.. ما أدى إلى تفاقم الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وزيادة معدلات الفقر، وتركيز النشاط الاقتصادي في يد طغمة صغيرة من أصحاب رؤوس الأموال.
ومع ذلك، تقتضي الموضوعية الإقرار بأنَّ أهم منجزات الحضارة الإنسانية (في مجالات الفنون والإبداع الإنساني، والزراعة والطب، والتقدم العلمي والتكنولوجي، وترسيخ مفاهيم ومؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء الدول، والسلم الأهلي...) إنما تحققت في عصر الرأسمالية..
فللحقيقة دوما وجهان.