عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - ما الذي يدفع الإنسان لعمل الصواب، أو لتجنب الخطأ؟ وما الذي يحفزه على فعل الخير، أو الابتعاد عن المحرمات؟
طبعا، الإجابة السريعة هي مخافة الله سبحانه، أو الرغبة بجنته ورضوانه.. ولكن، ماذا بشأن غير المتدينين، أو من لا يؤمنون بوجود إله؟ قد تكون الإجابة: ما يُعرف بالسلوك الحضاري، أو تقيدهم بالأنظمة والقوانين.. ولكن كيف نفسر التزامهم بالقوانين، أو إقدامهم على فعل الخير، وهم متأكدون أنه لا توجد رقابة عليهم، بمعنى أنه لا شيء يجبرهم على فعل الخير، ومن الممكن أن يضمنوا نجاتهم من عواقب ما ارتكبوه من مخالفات، أو ما اقترفوه من آثام؟
لا تناقش هذه المقالة موضوع العلاقة بين الدين والأخلاق، وهل الأخلاق منشؤها الدين فقط، أم هي سلوك إنساني.. المقالة تطرح سؤالا محددا: ما هي دوافع البشر في تصرفاتهم المختلفة؟
بعض النظريات تقول إنَّ الإنسان بطبعه شرير، وأناني، ومن الممكن أن يفعل أي شيء، طالما ضَمِن العواقب.. وكل ما في الأمر أن تطور الحضارة الإنسانية جلب معه القوانين والأعراف والتقاليد والعقوبات... ما هذب وقيّد سلوك البشر، وارتقى بهم إلى مستوى الإنسانية.
وفي المقابل، ثمة من يقول إنّ الإنسان بطبعه خيّر، ومحب للسلام، ومن يقترفون الأخطاء والجرائم هم حالات شاذة، ومحدودة، أو أنّ الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية من الممكن أن تغير سلوك البشر، وتجعلهم يفعلون أشياء ليست من طبيعتهم.
في الأزمنة السحيقة، أي قبل نشوء المجتمعات، والدول.. بدأ الإنسان بتهذيب سلوكه الفردي بعد أن لاحظ أنّ ضرر تصرفاته السيئة لا يقتصر على من يقع عليه الضرر مباشرة، بل يعود عليه في نهاية المطاف، لذلك بدأ يتخذ سلسلة تحريمات، لجعل الحياة ممكنة، مثلا، حرم زواج الأخت، ونظم علاقاته الجنسية، ثم حرم القتل، ثم حرم السرقة.. وهكذا، لأنّ تلك الممارسات كانت تعود بالضرر على الجميع، أي أنه مع ازدياد السكان، وتعقد الحياة الاجتماعية، أخذت تتضارب المصالح بين الأفراد، ما أخذ ينذر بنشوب الصراعات والحروب، ولأن تلك الصراعات كانت تضر الكل، نشأ أول عقد اجتماعي ينظم العلاقات والحياة الاجتماعية، وهذا العقد تأسست عليه المجتمعات الإنسانية فيما بعد.
وهذا العقد الجمعي (الإنساني) لم يتشكل دفعة واحدة، بل نشأ في سياق عملية صيرورة تاريخية امتدت قرونا طويلة، بدأت بالعادات، ثم التقاليد، فالقيم، والأعراف، والتعاليم الدينية، وصولا للأنظمة والقوانين والدساتير والقوانين الدولية.
وبالعودة للسؤال: إذا كان دافع المؤمن لتجنب المحرمات هو خوفه من عقاب الله، ودافعه لعمل الخير هو رغبته بالحصول على الأجر والثواب.. فهل هذا شيء إيجابي بالضرورة؟ أم هو سلوك بدافع أناني محض؟ أم هو قصور في فهم مقاصد الدين، وإساءة في تطبيقه؟ بمعنى أوضح، نلاحظ إقبالا كبيرا على فعل الخير من قبل المسلمين في شهر رمضان، خاصة التبرع للمحتاجين، لإيمانهم أنه في هذا الشهر تتضاعف أجورهم عند الله، حتى لو كان ذلك يعني امتناع كثيرين عن فعل الخير بعد انقضاء الشهر الفضيل.. أو امتناعهم عن تقديم مساعدة لشخص من خارج الطائفة، لظنهم أن الأولوية لتقديم المساعدات للمسلمين.. وهنا من الواضح أن الدافع لعمل الخير للحصول على فائدة شخصية (الأجر والثواب).
من جهة ثانية، فإنّ غير المتدينين، بمن فيهم الملحدون، حينما يقدمون على فعل الخير، كالتبرع مثلا، أو تقديم مساعدة، قد يفعلون ذلك من أجل الشهرة، أو من أجل تحقيق مكاسب من نوع آخر.. وهذا شائع.. ولكن، في كثير من الأحيان يفعلون الخير بأنواعه، أو يمتنعون عن المحرمات، وهم واثقون أنهم في تلك الحالة لا يخضعون لأي نوع من الرقابة.
في واقع الأمر، هم يبحثون عن شيء اسمه الرضا الذاتي، أو الشعور بالسعادة، حيث إن إقدامهم على فعل شيء جيد، أو امتناعهم عن فعل ما هو سيئ يمنحهم ذلك الشعور الخفي بالسعادة الداخلية.. وهذا ينطبق أيضا على المؤمنين.
أي أنه في الحالتين: المؤمن الذي يسعى للأجر، والملحد الذي يسعى للرضا الذاتي.. كلاهما ينطلق من دافع أناني، كلاهما مهتم بنفسه بالدرجة الأولى.. وكلاهما ينطبق عليه وصف «أناني».. لكن ثمة فرقا كبيرا بين الأنانية السلبية، والأنانية الإيجابية.
الأنانية الإيجابية ربما تكون موجودة عند كل البشر، دون استثناء، وهي تعني أن كل أفعال الإنسان دافعها البحث عن مصلحته الشخصية أولا، ويجب أن تصب فيها بالضرورة، بما في ذلك «الإيثار»؛ أي تفضيل الآخرين على الذات.. ففي هذه الحالة الإيثار سيجلب منفعة شخصية على الفرد، ولكن بعد حين.
البعض يفعل الخير حتى يرتاح ضميره، لأن رؤيته المعذبين والبائسين تقض مضجعه، وتحرمه متعة الحياة.. أليس الدافع هنا ذاتيا أيضا؟
حاتم الطائي لم يكن مسلما، وكان مثالا للكرم والإيثار، بالتأكيد كان ذلك يشعره بالسعادة، والفخر، وهذه أشياء أهم وأغلى من الأغنام التي كان يذبحها لضيوفه.
أم كلثوم، من أعظم فنانات العصر، لكنها رفضت أخذ ألحان فريد الأطرش، ولو فعلت ذلك، لأعطتنا تحفة فنية لا تقدر بثمن.. لكن الحسابات الشخصية الصغيرة منعتها عن ذلك.. وردة الجزائرية لها فضل عظيم على الطرب والفن، ومع ذلك تآمرت على ميادة الحناوي، ولو تعاونت معها، أو تركتها لشأنها، لكنا نسمع اليوم أعذب الألحان.. ومع ذلك، لا نشكك بإيمانهن بالفن، وقيمته، ورسالته.. لكن دوافعهن الشخصية تغلبت على الإيمان والمبادئ..
في نفس السياق، أعظم الشعراء والأدباء والعلماء ربما يحطمون منافسيهم، لدوافع شخصية بحتة، رغم قناعتهم بأن منافسيهم ربما يقدمون شيئا عظيما للبشرية..
كشف العلماء عن وجود منطقة في الدماغ مسؤولة عن الإحساس بالسعادة، وهذه المنطقة تتوهج كلما تصرف الإنسان على نحو ما، بعضهم يشعر بالسعادة تغمره إذا ساعد محتاجا، أو إذا أدخل الفرحة لقلب بائس.. والبعض يشعر بالمتعة وهو يقتل ويعذب ويعتدي على الآخرين.. الدافع في الحالتين غامض، لكن تجلياته تظهر في تلك المنطقة الصغيرة في الدماغ.
في الحكمة المأثورة: أحب نفسك أولاً، حتى تحب الآخرين.