عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - في كل يوم، تزداد أهمية وقوة الإعلام الإلكتروني، أو الدبلوماسية الرقمية، حتى صار من بين أهم عناصر القوة الناعمة.. الأكثر تأثيرا، وحضورا، خاصة بين جيل الشباب.. مبادرة جديدة ظهرت في الساحة الفلسطينية، وبسرعة الصاروخ، أخذت تتحول إلى قوة مؤثرة، ليس داخليا وحسب، بل على المستوى العالمي.. وقد أدخلت مصطلحا جديدا للقاموس العربي "الهبد".. تحدثت عنها وسائل إعلام محلية ودولية عديدة.. ربما تكون نسخة أخرى من حركة BDS؛ إنهم "جيش الهبد الإلكتروني"، أو "الهبيدة".. وصفهم الدكتور "فضل عاشور" بأنهم أحلى شباب.. سيغيرون وجه غزة، والدنيا بأسرها.. هم وجه غزة الجديد، بعد أن شحبت الجماعات الدينية، وبدأ ينطفئ وهجها..
كتب عنهم الصديق "عماد الأصفر" هذا النص الجميل:
"هل يستطيع الانتقال من العفوية إلى التنظيم دون التخلي عن الاستقلالية؟
المهندس أحمد جودة، المولود في غزة، سنة أوسلو، بعد تعرضه للاعتقال والضرب على يد أمن داخلي حماس، أثناء قمعهم حراك "بدنا نعيش"، كان عليه أن يفرّغ نفسيا غضبه وحزنه وقلقه، لكنه لم يستطع فعل ذلك بشكل صريح ومباشر، فبدأ باستخدام الرموز، ومنها مصطلح "الهبد"، والذي يعني الضرب بلهجتنا، والكذب والمبالغة باللهجة المصرية، وسرعان ما قاسمه استخدام المصطلح رفيقه أمين عابد، الحاصل على شهادة الماجستير في العلوم السياسية، والمعتقل لدى حماس عدة مرات.
صديقهما الثالث حسن جمال، المولود في عام تأسيس السلطة، والذي يعرّف نفسه بأنه مع القيم وضد القوالب، التقط الفكرة، ومصطلح الهبد، وبحكم كونه باحثا في الدبلوماسية الناعمة والشعبية، المسماة اصطلاحا بالدبلوماسية الرقمية، وجد أنها قد تكون رافدا أو بديلا لهاشتاغ الفيلق، الذي استخدمه مع ذات الأصدقاء وغيرهم للتعبير عن هموم الشباب والوضع الفلسطيني المزري.
الغزوات الأولى للحملة، التي رفعت شعار "إهبد"، سلاحا وحيداً لجيش "الهبد" الالكتروني كانت محدودة في المجال المحلي والإقليمي، ولكنها لم تكسر عصاتها، بل حققت نجاحا عزز من حضورها الواعد.
فقد أجبرت الحملة قناة "ناشيونال جيوغرافيك" على الاعتذار عن تسمية صحراء فلسطين بصحراء إسرائيل، كما أجبرت وكالة "شهاب" على حذف خبر يحتوي على مغالطات كثيرة عن عدد حالات الانتحار في الضفة الغربية، واستطاعت إجبار صحيفة فلسطين ومواقع أخرى كموقع "قدس نت" على سحب خبر يشتمل على أسماء رباعية لمواطنين تدعي أنهم عملاء للاحتلال، وحتى حركة حماس نفسها اضطرت إلى التصريح بأنها لم تكن مصدر تلك القائمة.
وفيما كان جيش "الهبد" يتوسع باطّراد، ويتنامى عدده بتناسب طردي مع سمعته وسمعة أفراده، وفيما كان يحاور المتشككين بأهدافه، ويغض الطرف عن المشككين به، اندلع العدوان الإسرائيلي على غزة، فصارت مواقع وكالات الأنباء العالمية والصفحات الإلكترونية لجيش الاحتلال ووزارة خارجيته إضافة إلى حسابات الناطقين باسمه مسرحا لعمليات الهبد المتواصل طيلة أيام ذلك العدوان.
شتَمَ "الهبيدة" جيشَ الاحتلال لأنه يقصف مقرات الأمن الداخلي التابع لحركة حماس، ولكن الغصة كانت حاضرة في حناجرهم؛ فهذه هي ذات المقرات التي اعتقلوا وضُربوا فيها خلال حراك "بدنا نعيش"، الذي قمعته حركة حماس بوحشية.
تمتلك شابات وشباب غزة قدرات تقنية هائلة، ومهارات متعددة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ولطالما استغلوها خلال الحروب التي شنها الاحتلال على القطاع، لكن الجهد لم يكن منظما، ولم يكن محدد الاستهداف، ولم يعتن كثيرا بصورة الفلسطيني، ولا بدحض ادعاءات وأكاذيب الإسرائيليين بشكل علمي موثق ودقيق، وبلغة تستطيع مخاطبة أنصار إسرائيل المغرر بهم، وأولئك المتعاطفين معها، لعدم اطلاعهم على الشق الآخر من الرواية.
وهنا كان الإبداع لشابات وشباب "الهبد"، في انتقاء مواقع وصفحات المشاركين في مسابقة "اليوروفيجن"، التي أقيمت في إسرائيل، وكذلك صفحات وحسابات لاعبي فريق "أتلتيكو مدريد" الذي أعلن أنه سيلعب مباراة في القدس مع فريق إسرائيلي، وكذلك صفحات وحسابات الرئيس البرازيلي المؤيد للاحتلال، وهو ما أدخل الهبد مرحلة جديدة، تم استخدام 25 لغة خلالها، إضافة إلى اعتماد أكبر على الصور، وكذلك التصاميم التي تشرح قضيتنا وتنسف رواية الاحتلال وتكشف زيفها، وهو زيف طال كل شيء بما في ذلك أكلة "الشكشوكة".
يقول "الهبيدة" إن "الهبد" فن وذوق وأخلاق، وأن "الهبيد" الممتاز لا يشخصن القضايا أبدا، ويسعى لإقناع الآخرين بحقنا عبر الحوار الهادئ المؤدب المستند إلى حقائق علمية، لحمله على تصويب مساره، ويشكره حين يفعل، ولا ينسى بين الحين والآخر أن يُغرق المتضامنين مع قضيتنا بقلوب الحب وعبارات الشكر.
واليوم تنشغل شابات "الهبد" وشبابه في توزيع وترويج الأخلاقيات الواجب استخدامها في الحوار و"الهبد"، والتقنيات الأنجع لإيصال الرسالة، سواء كانت نصا، أو صورة، أو أيقونة تعبيرية.
جيش "الهبد" الإلكتروني، والذي بدأ بعفوية وظل عفويا حتى الآن، متحدون خلف الهدف، ومؤمنون بالفكرة، وبحقهم الوطني والإنساني، وهم متحررون من الانتماء الفصائلي في الغالب، أو عاتبون على فصائلهم، ويرون أن قميص الفصائل بات ضيقا عليهم، وأنهم لن يكونوا مجرد برغي في ماكينة هذا الفصيل أو ذاك.
المبادرة ما زالت في بدايتها، ولكنها واعدة جدا، وباتت تحظى بقبول متزايد وانضمام والتحاق متطوعين كثر، من خارج فلسطين أيضا.. ومستقبلها مفتوح على شتى الاحتمالات، فهي غير مكلفة، ولا مركزية، ويمكن أن تتكرر في أكثر من مكان، ولأكثر من هدف، ويمكن لكل جماعات الضغط أن تحاكيها.. المهم أن تكون هذه الجماعات منفصلة عن المصالح الشخصية والحزبية، وأن تعمل ضد المسيء، بغض النظر عن هويته أو انتمائه؛ فاستقلالية هذه المبادرات عنصر أساسي لنجاحها.
هل ينجح جيش "الهبد" في تنظيم صفوفه أكثر، دون أن يتخلى عن مرونته وعفويته؟ ودون أن يؤثر سلبا على المحبة وروح التعاون التي تسود منتسبيه؟ هل ستؤدي الشهرة التي حصل عليها البعض إلى إثارة الغيرة والحفيظة كما شهدنا في حالات مشابهة؟ هل سيستطيع هذا الجيش الحفاظ على استقلاليته؟ وهذا هو الأهم..
كلي أمل أن يكون "الهبيدة" على دراية بهذه الأخطار، وهذا أمل أستطيع المراهنة عليه، ولكن الأمل بأن تساند المؤسسات الحكومية وغير الحكومية هذا الجيش الإلكتروني، أمل صعب، ولكن الرجاء فقط أن يتركوهم ليعملوا دون تدخل أو وصاية