عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - طوال المليار الأول من عمر كوكبنا، ظلت النيازك تقصف الأرض بلا توقف، والبراكين تتفجر في كل مكان.. ومع كل هذا الجحيم، لم تشتعل نار واحدة قط! والسبب غياب أهم عنصر لاشتعال النار (الأوكسجين).. بعد ذلك بدأت تتكون كميات معقولة من هذا الغاز الذي سيمنح الكوكب فرصة الحياة، وبتوفره بدأت النيران تشتعل كلما ضربت الصواعق، أو هبت الريح.. وهذا ما ميز كوكب الأرض (الذي سيمتلئ بالحياة بعد ثلاثة مليارات عام) عن كوكب الزهرة الذي يكاد يشتعل من شدة حرارته، ولكن دون نيران، ودون حياة.
منذ ذلك الزمن السحيق ارتبطت النار بالحياة، وكانت رفيقها الدائم طوال مسيرة تطورها.. بل كانت هي صانعة ذلك التطور..
قبل نحو نصف مليون عام اكتشف الإنسانُ القديم النار، وكان المخلوق الوحيد الذي عرف كيف يشعلها، ويتحكم بها.. لكنه احتاج آلاف السنين حتى أمكن له ذلك، ومنذ ذلك الوقت، لعبت النار دورا محوريا في تاريخ البشرية.
بالنار أمكن للإنسان أن يطهو طعامه، وهذا الأمر لم يقلل نسبة الوفيات من التسمم الغذائي وحسب، بل ونوّع مصادر طعامه، والأهم أنّ النار أنضجت البروتينات، وبالتالي زادت نسبة الاستفادة من الغذاء، ما ساهم في تطوير قدرات الدماغ، ثم تغيير شكل الفك، وبالتالي الوجه، ثم تقليص حجم الأمعاء، ثم تغيير بنية الجسد كله.
قبل اختراع الطهو كانت اللحوم قاسية، ويصعب مضغها وتحتاج ساعات طويلة لهضمها.. النار جعلتها لينة، وأسهل للهضم، وهذا منح الإنسان وقت فراغ أطول.. وكما غيرت النار شكل الإنسان، غيرت سلوكه، فلم تعد حياة البشر نهارية فقط، بل صارت تمتد إلى الليل، كما أن موقد النار وفّر فرصة التجمع حوله طلباً للدفء، وهذه كانت نواة المجتمعات الأولى.. وحتى بعد تشكل الحواضر المدنية ظلت البيوت تقترض من بعضها جذوة النار.. والتي صارت جذوة علاقات حب في بعض الأحيان.
النار أتاحت للإنسان فرص النجاة، وسط عالم يعج بالمخاطر والوحوش، فهي لم توفر له الحماية وحسب؛ بل حولته من الطريدة إلى الصياد.
فإضافة لحماية الإنسان من المفترسات، وحمايته من عصور الجليد، وتحسين نوعية طعامه، صار للنار دور إضافي، فحول الموقد يتجمع الناس، ويتبادلون أطراف الحديث، ويخططون للمستقبل.. وهكذا نشأ الكلام، وتطورت اللغات، وتطورت المجتمعات.
وبعد أن عرف الإنسان قدرات النار الرهيبة صار يفكر كيف يستفيد منها أكثر، وكان أول تطبيقاته صهر المعادن، لسـنِّ رماحه واستخدامها في صراعه ضد قوى الطبيعة، وضد بني جنسه.. وبعد عصر النحاس الذي لم يدم طويلا، صهر الإنسان القديم القصدير مع النحاس لإنتاج البرونز، ليودع مليوني عام من العصور الحجرية.. ويدشن عصرا جديدا.
وبعد البرونز، صهر الإنسان الحديد؛ في بيت النار صنع المنجل والفؤوس والمعاول، كما صنع السيوف والخناجر ورؤوس الرماح..
وكل الاختراعات التي قادته من الثورة الزراعية إلى الثورة الصناعية، ومن الآلة البخارية لماتور الديزل.. وصولا للكهرباء، مرت من بيت النار.
ومثلما اقترن تطور الحضارة بالحروب، اقترنت الحروب بالنار.. فلم تعد النار لصقل السيوف وحسب، بل صارت متفجرات وقذائف لهب، تدك حصون العدو دكا.. أهم وأعظم التغيرات التاريخية جاءت من خلال، وبعد الحروب، وتلك الحروب لم تكن ممكنة لولا النار.
وكما رافقت النار مسيرة تطور الصراعات البشرية، من نزاعات قبلية محدودة إلى حروب طاحنة بين جيوش جبارة.. رافقت النار مسيرة الحضارة الإنسانية، منذ أن كانت موقداً تتشكل فيه الأواني الفخارية، حتى صارت موقداً يمد المدن بالكهرباء.. ومنذ أن كانت موقداً يمد العائلة بالدفء، حتى صارت وقوداً يمد الكوكب كله بالطاقة.
ومقابل النيران التي أشعلها العلماء في مختبراتهم لإطلاق التفاعلات الكيميائية، وإنارة شعلة المعرفة، أضرم المتعصبون والغوغاء النيران في عشرات المكتبات، خاصة مكتبتي الإسكندرية وبغداد، وأحرقوا ملايين الكتب، وبذلك أخّروا ركب التقدم الحضاري والعلمي ألف سنة على أقل تقدير.
النار، اليوم، ليست مجرد ولعة للسيجارة، ولا لإعداد القهوة فقط، أو لشيّ صينية الكفتة بالفرن.. أو لتحمير رغيف الخبز.. النار فعليا، توقَد في كل لحظة، وفي كل مكان على هذا الكوكب.. وكل الصناعات والاختراعات والأدوات التي تجعل حياتنا ممكنة تعتمد على شعلة النار.
الطاقة بكل أشكالها، التي تسيّر حياتنا كلها، وتيسّرها، والتي دونها تصبح الحياة مستحيلة، هي وإن كانت طاقة كهربائية أو حتى نووية بدأت من شعلة نار.
تنقلاتنا من السيارة حتى القطار والطائرة والباخرة تعتمد على الطاقة، التي تشعلها شرارة نار.. حتى الصاروخ الذي ينطلق في الفضاء يعتمد على النيران التي تشتعل في ذيله.. وكل ما في الأمر أن الإنسان تمكّن من حصر النار، والتحكم بها، وتغيير أشكالها.
حتى العام 1666 كانت لندن مدينة عشوائية، تعمها الفوضى، تغمرها القذارة، والفئران، والمزابل.. عشرات آلاف البيوت الخشبية مكدسة فوق بعضها بشكل فوضوي، لا شوارع واسعة، ولا ميادين، ولا تخطيط، ولا بنية تحتية.. في ذلك العام المفصلي من تاريخ المدينة اشتعلت النيران في أحد البيوت، ولأن البيوت كانت متلاصقة امتدت النيران بسرعة فائقة حتى التهمت 80% من المدينة، فجعلتها كومة رماد.. وتلك الكارثة «الإنسانية» كانت فرصة ضرورية للمدينة لتنهض من جديد، على أسس حديثة.
ومثل لندن، مدنٌ كثيرة تدين للنار، والتي بفضلها أُعيد بناؤها أو بعض إحيائها من جديد.. بكين، روما، طوكيو، القاهرة، باريس، ميونخ.. فالنار، كما غيرت مسار التاريخ غير مرة، وغيرت شكل الحضارة، غيرت شكل مدننا.. وصولاً للمدن الذكية.
ولكن، مثلما كانت النار ضرورية، بل وشرطاً لبدء الحياة واستمرارها.. قد تكون النيران سببا لنهاية الحياة، ودمار كوكب الأرض.. حيث يمكن لمجنون أن يكبس زرا نوويا، فتتحول الأرض في لحظة إلى كوكب مشتعل بالجحيم.. وفي زمن ينتخب الناس مجانين مثل نتنياهو وترامب، ممن لديهم صلاحيات كبسة الزر النووي، سيظل مستقبل البشرية كله في خطر.. (ألم ينتخب الأميركيون ترومان مرتين؟!).
الحروب تندلع من شرارة، والسلام يعم بعد وقف إطلاق النار..
ودعاء المؤمنين الدائم: اللهم قنا عذاب النار.
الحياة الجديدة