نابلس - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - ما فعلته "حماس" في غزة، أنها حاولت الجمع بين المستحيلات.. حاولت أن تطرح نفسها كحركة مقاومة، وبشروط سياسية متشددة، وأن تحتفظ بالسلطة، وتتحمّل مسؤوليات إدارة الحياة اليومية لنحو مليوني فلسطيني يقيمون تحت سلطتها! وهذه المتناقضات لم ينجح أحد (تاريخياً) في التوفيق بينها.
المقاومة والثورة، لها اشتراطات وسياقات معينة، وكذلك السلطة بما تقتضيه من إدارة شؤون الحكم، والانغماس في التفاصيل لها اشتراطاتها الخاصة والمختلفة.. الشكل الوحيد الذي يمكن من خلاله الجمع بين النقيضين، أي بين متطلبات بناء الدولة، وبين استمرار المقاومة والكفاح الوطني، هو المقاومة الشعبية السلمية؛ حيث مع المقاومة الشعبية المدنية يمكن الاستمرار بعمليات بناء الدولة والمجتمع، وإدامة الاشتباك مع العدو على الأرض، ومقارعته سياسيا، ودبلوماسيا، وإعلاميا، وخوض مفاوضات سياسية. 
بهذا الشكل يمكن لجذوة الثورة أن تظل مشتعلة، وأن يظل إيقاع الحياة مستمراً بأقل قدر ممكن من الخسائر والتضحيات. 
حماس، لم تعترف بالمقاومة الشعبية، ولم تتبناها كأسلوب كفاح، إلا في السنتين الأخيرتين. قبل ذلك كانت تزدري هذا الشكل من المقاومة وتستخف به، ولا تشارك في فعالياته.. لكنها تبنته بشكل خاطئ، عبر مسيرات العودة، التي اتضح أن هدفها امتصاص وتأجيل نقمة الشارع ضد حماس، وتحويلها نحو الاحتلال، بالإضافة لمبادلة الهدوء بالإبقاء على حكمها، عبر تسويات صغيرة كانت تتم من خلال قطر.
بنت حماس سياساتها الخارجية على مبدأ اللعب على المحاور الإقليمية، فرهنت مواقفها، (والقضية الفلسطينية معها) لصالح طرف على حساب العلاقة مع أطراف أخرى، وفي النتيجة لم يتبقَّ لها سوى قطر.. 
داخلياً، تصرفت على أنها تقود وتمثل جماعة فقط، فالأموال التي تأتي للشعب، تُصرف فقط على حماس.. الامتيازات والأولويات والتوظيف محصورة لأبناء حماس.  
على مدى سني حكمها، أظهرت "حماس" تمسكاً عنيداً غير عادي بالسلطة، وبرهنت أنها مستعدة لكل شيء مقابل أن تظل بالسلطة؛ مستعدة أن تضحي بالشعب (وهي تفعل ذلك منذ 12 سنة)، مستعدة للتضحية بالقضية الفلسطينية وصورتها المشرقة وقوتها الأخلاقية (وقد فعلت ذلك بالانقلاب الدموي)، ومستعدة للتضحية بصورتها وسمعتها نفسها (من خلال القمع العنيف الذي تمارسه ضد الشعب).
وقد ظلت كل تلك السنين وهي تقدم الحجج والذرائع للتهرب من استحقاقات المصالحة، وفي الاجتماع الأخير في موسكو نكصت خطوات للوراء، وكشفت عن نيتها بكل وضوح، حين رفضت الاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، ما يؤكد أن المصالحة ليست في وارد تفكيرها على الإطلاق.
مارست الحكم بعقلية الحزب الحاكم، على طريقة الأنظمة الشمولية الاستبدادية، قمع، وتنكيل، وتكميم للأفواه، واعتقالات، وتعذيب، واعتداءات على الصحافيين، إهانة كبار السن، والنساء، والأطفال.. مع استعلاء على الناس، وتنكر لاحتياجاتهم.  
وهذه الممارسات ليست أخطاء فردية، ولا هي نتيجة الضغوط الخارجية، بل هي في صلب وبنية كل الأنظمة الاستبدادية، ذات الفكر الشمولي، الذي لا يقبل الآخر، ولا يعترف بالتعددية، خاصة الأنظمة الثيوقراطية التي تحكم باسم الدين.
فهذا الفكر الإقصائي ينظر للعالم ضمن ثنائية حادة (مع أو ضد) وهي عقلية فاشية، تعتبر نفسها فقط من يمثل "المؤمنين"، "الصالحين".. ومن هم خارجها "كفرة"، "ضالين".. هي من تمثل "المقاومة" والآخرون متخاذلون، وعملاء.. التاريخ ابتدأ بهم، وقبل وجودهم لم يكن شيء! هذه الثنائيات بتلك العقلية الإقصائية هي الوقود الذي يضخ ثقافة الاستبداد والعنف، بأبشع صوره. 
خطورة الوضع المأساوي الذي تعاني منه غزة، لا يكمن فقط من خلال معاناة الناس اليومية، بل بوجود كل المؤشرات التي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأوضاع تسير من سيئ إلى أسوأ، وأن غزة في هذه الحالة ستكون بلا مستقبل، وستصبح مكانا لا يصلح لعيش البشر في غضون سنوات قليلة.
وهذا يدعونا للتساؤل عن سر إصرار حماس على التمسك بالسلطة، ولماذا تتخلى عن مشروعها المقاوم لصالح السلطة؟ ولماذا جعلت كتائب القسام تتحول من دورها الكفاحي إلى دور شرطي يقمع الناس بكل قسوة؟ لماذا لا تسلم الحكومة الرسمية في رام الله مسؤوليات إدارة الحياة اليومية للمواطنين، وتتفرغ هي للمقاومة؟ وتعود كما كانت قبل 2007؟ 
ما فعله الحراك الاجتماعي في غزة أنه أسقط القناع عن وجه حماس، أنزلها من عليائها المقدس، إلى الأرض، حيث هي في الحقيقة والواقع.. جردها من مزاعم تمثيل المقاومة أو التحدث باسم الدين وكشَفَ زيف شعاراتها بالإصلاح والتطهر السياسي، لتبدو حقيقتها، أو كما أصبحت، مجرد مشروع سلطة، ومال، ونفوذ، وتحكم بالعباد. 
كان يمكن لغزة أن تصبر على حكم حماس سنين طويلة، لو أنها لمست الصدق في أدائها، أو العدل في حكمها، أو الحكمة في استراتيجيتها.. لكن ما جنته منها ثلاث حروب مدمرة (كان يمكن تجنبها، أو التقليل من أضرارها)، ومغامرات سياسية (جعلتها تقدم مزيدا من التنازلات)، وحصارا ظالما (لم يكن ليحدث لولا انقلاب حماس)..
أخطاء حماس، سواء تلك التي من صميم بنيتها، أو الناجمة عن سوء تصرفها، وممارستها، وتمسكها المريب وغير المبرر بالسلطة، وسياساتها التي قادت إلى هذا الوضع المزري.. كل هذه الأمور كانت تتضح شيئا فشيئا للجماهير، الجماهير التي صارت تدفع الثمن غاليا، حتى فقدت الأمل.. قررت أخيرا التحرك.
غياب العدالة الاجتماعية، وتفشي الفقر والبطالة، وانسداد الآفاق السياسية والاجتماعية، والتضييق على الحريات، وفقدان الأمل.. وتدهور الأوضاع الداخلية على كافة المستويات.. لدرجة أن العيش بأبسط الشروط صار صعبا.. هي دوافع وأسباب الاحتجاجات الشعبية..
واجهت حماس الحراك الشعبي بنفس الادعاءات الغبية التي قدمتها الأنظمة العربية: مؤامرة، مندسون، حماية المقاومة.. وبدلا من تفهم مطالب الشارع لجأت للعنف.
وكما قال د. فضل عاشور: "الحراك الاجتماعي القائم لن يتوقف.. ولا يمكن لقوة سياسية أن تقوم به، أو تقوده، أو أن تديره.. فهو تعبير عن أشياء أكثر عمقا من السياسة، والأحزاب، والمواقف الفكرية، بل أعمق من أي شيء آخر.. انه صراع الناس العاديين من أجل البقاء، وتوفير الحياة بأبسط صورها.. الخبز، والكرامة، والشعور بالأمان، وبعض الأمل.. وهذه أشياء عجزت حماس عن توفيرها".. 
اعتداء ملثمين من "حماس" على عاطف أبو سيف، بهذه الطريقة الوحشية، يعني أن الحركة أفلست، ولم يعد هناك ما تخشى من فقدانه، وهذا ما سيدفعها لمزيد من العنف.
ما يحصل في غزة هو استحقاق طبيعي، تأخر كثيراً.

الايام