أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - «حماس» مدعاة للشفقة أكثر مما هي مدعاة للهجوم والتشفي، من كان يتصور أن ورثة الشيخ ياسين ذلك الرجل الهادئ وورثة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي لم يكن لديه سوى مشروع مقاومة، ومن كان يتصور أن كتائب القسام ذلك الاسم الذي سطع يوماً في نجم المنطقة العربية، من كان يتصور أن هؤلاء سيجرون في الشوارع يوماً ما بالهراوات والأسلحة يضربون ويلاحقون ويطلقون النار على أبناء شعبهم الجائع.
لا شيء يفيد «حماس» الآن لا الشفقة ولا تدبيج مقالات الدفاع عن مسلح يطارد مواطناً يبحث عن حياة كريمة ولا مقالات التحريض، لأن ما يعتمل في صدور شعب من المتسولين والغاضبين والناقمين أكبر من التحريض ولم يعد ينتظر كلمة هنا أو مقالاً هناك ليعرف أنه منزوع الحياة والكرامة ولقمة العيش.
وصلت غزة إلى الصدام، إلى الحقيقة التي حاولت الحركة تجاهلها طويلاً، كتبنا كثيراً عن أزمة غزة والناس والفقراء والبائسين والمعدمين والمتسولين الذين يجولون الشوارع وطوابير البطالة الطويلة جداً والحزانى والآباء الذين يهربون من وجه أبنائهم لأنهم لا يملكون مصروفهم اليومي، وأطفال انعدمت طفولتهم، والنساء اللواتي انعدمت أنوثتهن وضاع مستقبل جيل بكامله، كل هذا لم يحرك عند مسؤولي حماس ساكناً وبدل أن تأخذ بكل ما قيل كان الأسهل عليها أن تصنفنا نحن الكتاب في خانة الأعداء والحاقدين وأن تشتمنا معتقدة أن في نفي الأزمة ما يمكن أن يلغيها.
الأزمة تفاقمت ولو كان هناك باحثون أو علماء اجتماع لدى الحركة لأدركوا أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، وأنه لا يمكن وضع مليونين من البشر في قفص وتجويعهم، وأن الحياة الكريمة هي مطلب إنساني أولاً حتى قبل المطالب الوطنية، وأن لحظة الحقيقة قادمة وأن الجوع لا يغطى بالكلمات، وأن المعدة هي أكبر تحريض للعقول، وأن الشعب كما قال ذلك الشاعر: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر» وإن تحركت الشعوب ستجرف في طريقها أعتى أشكال القوة.
انتظرت «حماس» كل هذا الوقت وهي ترى وتراقب وتتابع وتلاحق كل المعلومات التي تراكمت لديها وأصبح لدى أجهزة أمنها مئات آلاف المعلومات التي تشي بحالة بؤس مرعبة، ولكنها فضلت الصمت واستمرار الحكم واتهام المعارضين واعتقال من يكتب تغريدة على الفيسبوك واعتبار أن هناك من يحرض عليها وكأن الجوع لا يحرك في الشعوب ساكنا وبقيت ثملة بخمر السلطة.
الأدهى أنها حاولت أن تجد حلولاً في الخطب الدينية والخطابات الوطنية، وكم اجتهد خطباء المساجد الذين يتم توجيههم لإقناع الناس بالتأقلم مستدعين من التراث ما يكفي من القصص التسكينية، ولكنها لا تعرف أن الزمن اختلف وأن مفهوم الحياة الكريمة تغير.
فإذا كان قديما مفهومه إطفاء غريزة الجوع فمعناه الآن ابنة تذهب إلى الجامعة سيرا على الأقدام وطفل يأخذ مصروفا يوميا وفاتورة كهرباء وتدفئة ورسوم ومواصلات ووظيفة وبناء بيوت وأن السلة الغذائية لا تشكل 20% من حاجة الأسرة.
ولكنهم استمروا في استدعاء ماضٍ لا يشبه الحاضر على الإطلاق، وهذه هي أزمة القوى الدينية وتلك تطرح سؤالاً كبيراً حول جدارتها بحكم الحاضر لأن المجتمعات والتطور الذي حصل لا يشبه تلك المجتمعات التي يعيشونها في النصوص.
لتعد «حماس» قراءة المشهد من جديد لأن ما حدث لا يمكن أن يكون عابراً ومن الخطأ أن تذهب لتفسيرات ساذجة، فلا الذين تحركوا في كل الشوارع مدفوعون من الخصوم السياسيين وذلك هو التفسير الأسهل الذي تواسي نفسها به ويعفيها من قرارات وإجراءات تنازلية.
فالشعوب لا تتحرك بالريموت كونترول وقد حاولت رام الله تحريض الشارع الغزي سابقاً ولم تفلح، فالشعوب لا تتحرك إلا عندما تنضج الظروف وإن اقتنعت حماس أن خصومها هم من يحرضون ويقفون خلف تلك الأزمة عليها أن تعترف أن هناك ظروفا موضوعية اختمرت في غزة، وآن أوان الحركة والاحتجاج.
وكما يقول اليساريون فإن التراكم الكمي لا بد أن يصل إلى لحظة حرجة وأن يحدث تغييرا كيفيا وهذا ما حصل إنها اللحظة.
وفي الزمن الذي كان يطالب فيه الشعب بالصبر على الجوع كانت الناس تتداول روايات حول حياة مسؤولي الحركة، وهناك من امتلك البيوت والشقق والسيارات، وكثير من القصص التي بالتأكيد وصلت وصنعت هذا الفارق وهو كان أحد أبرز أسباب التحريض ضد الحركة، فلا رام الله ولا الكتاب ولا الفيسبوك بل الفارق بين واقع القيادة والتوقع من الناس أو المطلوب منهم هو ما صنع تلك النقمة التي تحولت إلى فعل ميداني رأيناه في الشوارع.
كالعادة ستدفن «حماس» رأسها في الرمال كالنعامة وتستسهل إحالة الأحداث لنظرية المؤامرة، ولن تخضع ما حدث للقراءة الجدية ولن تحدث تغييراً في نمط حكمها ولن تقبل بالشراكة، فعقل الإسلام السياسي هو عقل يعتقد أنه يمتلك العصمة والحقيقة وأن كل ما يدور في المؤسسات العامة هو شأن داخلي وتلك أزمة أخرى. ستستمر حماس كعادتها بالتجاهل وهذا مدعاة للشفقة حقاً.