تحسين يقين - النجاح الإخباري - تعيدنا مسرحية "حركة بمحلها" إلى عقدين من السنوات، حين اختار مسرح "عشتار" الفلسطيني أساليب متعددة من المسرح العالمي، وعلى رأسه مسرح المنبر ثم مسرح المضطهدين الذي تأسس على يد البرازيلي أوغستو باولو المفكر المسرحي، أما الناظم لذلك فهو التنوير على الديمقراطية وحقوق الإنسان، والمرأة بشكل خاص.
في البدء، وباستخدام إضاءة خفيفة، ترينا عمق خشبة المسرح، حيث يعزف شاب على العود، وهو يعلو سلّماً، خلال ذلك تبدأ الشخصيات بالظهور، كأنهن أخوات ثلاث، تمسك الأولى على بطنها قائلة: "عم بِتحرك"، قاصدة جنينها بالطبع، لكن ثمة رمزية ما تبدأ بالتحرك الدرامي هنا، حين تسخر أختها: "على الأقل في إشي بهالبلد عم بتحرك".
سيتعرف الجمهور على قضايا النساء هنا من خلال الأخوات الثلاث، خصوصاً في العدالة، فيما يخص فرص العمل وصنع القرار، حيث يختبر مسرحياً ما يراه في الواقع من إقصاء ظالم للمرأة، بل تشيئها، فتستفزه نحو النفور من هذه السلوكيات.
هي صوت النساء إذن، تناقش في جدية ظاهرة المرأة في سوق العمل والحياة، وإن تم ذلك وفق رؤية إخراجية اختارت الكوميديا أسلوباً.
تظهر السيدة "دنيا" متخرجة حديثاً، والتي يعيق زواجها فرصتها في الحصول على وظيفة، لأن المشغلين يزهدون بتشغيل المتزوجات، بسبب الإجازات المرتبطة بإنجاب المرأة من ناحية، والتحجج بقلة الخبرة. ثم تأتي "نوال" المهندسة المبدعة، التي لا يشفع لها إبداعها بالترقي في العمل، ليس هذا فقط، بل إن المدير أيضاً ينظر لها نظرة ذكورية، لا تقوم على تقدير العقل، ثم يتدرج في التحرش من الإيحاء إلى المباشرة، وصولاً إلى ترقية زميلها رغم خبرته المحدودة في مجال العمل.
أما "أماني" الأخت الثالثة، فلم يكن حظها أفضل، وهي التي تعمل مربية في حضانة أطفال، براتب قليل، مضطرة بسبب انفصالها وحاجتها لأي مبلغ مالي.
تسرد كل أخت قصة معاناتها من خلال رشاقة التمثيل، حيث تم استخدام ديكور عملي ثابت ومتحرك: ثابت من خلال اختيار جلوسهن على كومة قماش تحاكي شكل السرير، وعلاقة ملابس، والتي تختار منها كل أخت ملابس تناسب مقابلة العمل، حيث تنهمك في السرد، ثم ما نلبث أن نرى مشهداً مسرحياً، هو مشهد المقابلة الذي تم اختيار شكله الساخر، أكان ذلك من خلال حاسوبين على طاولتين كل واحد على جهة من المسرح، الذي تم تكوينهما من أسلاك معدنية تحاكي رأس حيوان، ربما لتأخذ السخرية مداها البلاغي والدلالي معاً وربما الاستفزازي!
أبدعت الممثلات بتمثيل الجدية في التقدم للعمل، سواء فيما قبل التوجه للمقابلة من حيث الإعداد النفسي-الشعوري، أو خلال المقابلة، كما أبدع الممثلون في تمثيل عدم الجدية، في مفارقة مدهشة بين الطرفين، وصولاً لحالة الرثاء التي تجسدها موسيقى العود بعد نتيجة المقابلة التي تتحول إلى سخرية، ثم إلى فعل احتجاج.
ويبدو أن الحوار هنا يصبح فعلاً، لذك وفق المخرج في اختيار اسم المسرحية "حركة بمحلها"، والتي تربط حالة "الطلق" لدى دنيا، قبل الإنجاب، وبين حالة ما يمكن أن يتمخض عن حالة التغيير الاجتماعي التي تتم في المجتمع الفلسطيني والعربي بشكل عام.
يمكن قراءة "حركة بمحلها" ضمن سياق التغيير الاجتماعي باتجاهات ديمقراطية وحقوق إنسان وحقوق مرأة، ومن هنا، بالضبط، يمكن قراءة الوعي الاجتماعي والسياسي والفكري على ضوء الفن، والمسرح بشكل خاص، من حيث دور المسرح في الحياة والتغيير.
وهذا يعيدنا إلى "أبو الفنون" ونقصد به المسرح الذي يرتبط نشوؤه وتطوره بالفكر والتفكير والحوار والإبداع الإنساني؛ فالمسرح، والأدب بشكل عام، ليس وسيلة ترفيهية تسلي المشاهد أو المتلقي، بل إن ثمة انسجاماً وحواراً جاداً يبدأ في ذهن المشاهد/المتلقي، حيث تبدأ عملية سيكو - مسرحية يتعرف فيها المشاهد على الشخصيات والقضية وردود الفعل، ثم تبدأ المقارنة بين المسرحية والواقع، ثم تستفز المسرحية المشاهد لتصور دوره لو كان في هذا المكان، وما إلى ذلك من انسجام إنساني بين المشاهد وما يقدم له. وفي هذه العملية، يتعرف المشاهد على نفسه من الداخل أكثر، ويصبح أكثر عمقاً. ولهذا فقد كان البرازيلي المؤسس لمسرح المضطهدين مدركاً لطبيعة المسرح، ولذلك فقد طوع، ووظف عالم المسرح باتجاه تغييري يتجاوز داخل الإنسان المشاهد إلى المحيط والواقع، أي باتجاه إيجابي فاعل للتغيير وليس التمني.
فمن خلال اختيار قضية، وحالة مبالغ فيها بقصدية التنفير والاستفزاز، يتم خلق حالة تفاعل ناقدة لما هو موجود، كما في حالة "حركة بمحلها"، حتى يعطي الفرصة للتغيير، فإنه يعبر عن رأيه الذي هو في نهاية المطاف رأي إنساني ينتصر للحق والخير.
ومن هنا، يكتسب المسرح شرعية الدور الطليعي في البناء والتغيير الاجتماعي أولاً ثم السياسي والفكري فيما بعد.
لعل التأسيس الاجتماعي-الاقتصادي، من منطلق العدالة، يقود إلى تأسيس سياسي في الحكم والإدارة، لذلك فإن الطرح الاجتماعي الجريء سيقود لطرح سياسي، فكأن "حركة بمحلها" تقصد إحداث تغيير شمولي، يستند إلى تغيير منظومة القيم.
نزعم أن المسرحية كانت فعلاً في "محلها" حركة ثقافية وفكرية واجتماعية وسياسية، قدمت القضية في دراما خفيفة، انتظمت من خلال معاناة الشقيقات الثلاث، اللواتي عندما بثت كل واحدة همها لشقيقتيها، إنما بثت الشكوى للمجتمع بأسره ومن خلال الفن.
بقي أن نقول: إن طاقم "عشتار" المدرب والذي أصبح يدرب آخرين، قدّم لنا مسرحية حيوية الشكل والموضوع، واستطعنا الحكم الإيجابي على الممثلين الذين أصبح لديهم ملكة تقديم هذا اللون للجمهور.
ألّف المسرحية الكاتب غسان ندّاف، وأخرجها محمد عيد الممثل والمخرج الفلسطيني المقدسي، والذي يعمل في مسرح عشتار منذ أكثر من 20 عاماً، وشارك في التّمثيل مجموعة شبابية متميّزة مكوّنة من 6 أشخاص، ياسمين شلالدة، خليل بطران، مريم باشا، رزق إبراهيم، شبلي البو، وئام الديري.
نقلا عن الأيام