عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - لو أنك استيقظت صباحاً كالعادة، وبعد أن غسلت وجهك، وشربت قهوتك، فتحت المذياع لتبدأ نهارك بفيروز، وإذا بالمذيع يصدمك بتاريخ اليوم، وبنشرة أخبار مختلفة كلياً بأسمائها وأحداثها عما اعتدت عليه، فتكتشف أنك نمت عاماً كاملاً.. وحتى تتأكد من ذلك تبدأ بتفقد صفحتك على فيسبوك، فتلاحظ أنّ جميع أصدقائك يصبون لعناتهم على العام 2019، ويعبرون عن فرحتهم بانقضائه، لأنه كان عاما مليئا بالأحزان والخسائر والمشاكل والمصائب.. (مثل الأعوام السابقة).
في البداية ستفرح قليلا، لأنك نجوت من هذا العام الرهيب، لكنك ستتفاجأ، حين تدرك أنّ الحياة سارت بشكل طبيعي من دونك، وأن تأثيرك عليها أقل بكثير مما كنت تتخيل، وقد تُصاب بالإحباط، فتقتنع أنك بلا أهمية أصلا، لأنّ من تعرفهم لم يتأثروا بغيابك، بل نسوك تماما.
ولكنك أثناء محاولتك استعادة توازنك، واستيعاب ما حصل معك، ستبدأ بحساب الخسائر والأرباح؛ أي معرفة ما فاتك من هذا العام، وما تخلصت منه.. ستعـزّي نفسك بفقدان عامٍ كامل، بأنك خلال هذا العام لم تصرف فلساً واحداً، أي أن خسائرك المادية صفر.. وأنك لم ترتكب أي جناية، أو مخالفة، أو حتى خطأ غير مقصود، ما يعني أن صفحتك بيضاء ناصعة، وبالتالي لم تكسب أعداء جدداً.. وبما أنك لم تصرف جزيئة طاقة واحدة، بالتالي لم تهرم خلاياك، ولم تتأثر أجهزتك العضوية، ما يعني أنك إن خسرت عاماً من الماضي، فإنك ستكسب عاما إضافيا في المستقبل.. فبينما تظهر على أقرانك علامات الكبر، ستبدو أكثر شبابا منهم.
وفي المقابل، ستدرك أنك لم تكسب قرشا واحدا، ولم تتعرف على صديق جديد، ولم تزد على عِلمك أي علمٍ، وبما أنك لم تخطئ، فإنك لم تزد على خبرتك الحياتية أية قيمة مضافة.
وحينها ستسأل نفسك، ربما لأول مرة، هل الحياة أموال نكسبها، أو نصرفها؟ هل هي أصدقاء ومعارف وعلاقات عامة؟ هل هي ممارساتنا اليومية بكل ما فيها من منجزات وحماقات؟ هل هي حفاظنا على الصحة، والابتعاد عن كل ما هو خطير ومؤذ؟
ثم ستصل إلى السؤال الذي طالما تهربت منه: ماذا يعني تقدمك في العمر سنة كاملة؟ هل كانت سنة إضافية عشتها بطولها وعرضها، وملأتها بالذكريات؟ أم هي خسارة سنة انسلخت من عمرك، ستقربك خطوة من الشيخوخة، ومن قدرك المحتوم؟
وبما أن سيل الأسئلة قد انفتح، ستصل إلى الأسئلة الأخطر والأهم: ما قيمة الحياة؟ وما جدواها؟ ولماذا نحن على قيد الحياة؟
إذا كنت مستعجلا، ولا تريد أن تتعب عقلك، ستجد ما لا حصر له من الإجابات الجاهزة والمريحة.. ستجدها في الأديان، وفي الأيديولوجيات، والمواعظ الأخلاقية.. لكنك إن كنت من النوع القلق، وتبحث عن إجابات أعمق وأبعد وأشمل.. حينها ستتعب، وتتعِب من حولك.
ستجد أن البشرية لم تقدم إجابة واحدة ترضي طموحك، وتروي ظمأك المعرفي.. رغم أن الحضارة الإنسانية قدمت مئات الإجابات على هذا السؤال الأزلي والإشكالي.. لكنها لم تتفق ولم تُجِمع على إجابة واحدة بتعريف واف ومختصر.. فكل دين، وكل فلسفة، وكل أيديولوجية قدمت إجابتها الخاصة (والمختلفة).
عندما استيقظت من نومتك الطويلة، وجدت نفسك تحمل إرثا طويلا وثقيلا من ماضيك الشخصي، وأنت متأكد أنك غير راض تماما عنه، رغم أنك تكابر وتبرر؛ فقد اقترفت في ماضيك أخطاء مخجلة، واتخذت قرارات تبين لك أنها غبية، وأخطأت بحق أناس كثيرين، ربما بحسن نية، وهناك أشياء فُرضت عليك، أو وجدت نفسك منخرطا في بيئات غريبة... ومع ذلك، من غير الوارد أنك ستصحح أخطاءك، وتصوب مساراتك، وتبدأ بدايات جديدة.. فمن النادر أن يتراجع الناس عما اعتادوا عليه، ومن الأندر أن يقروا بأخطائهم..
فمثلا، لن تعترف أنك حين قدمت إلى الدنيا وجدت نفسك تحمل إرثاً ثقيلا، رغم أن عمرك لا يتجاوز بضع دقائق (وهذه تشبه لحظة يقظتك من نومتك الطويلة).. فأنت منذ الدقيقة الأولى سترث دينا، وطائفة، وعقيدة، ولغة، وقومية، وجنسية، وثقافة، وقيما، وواقعا اقتصاديا وسياسيا.. ستمضي بقية حياتك وأنت تحمل هذا الإرث على ظهرك، وتخوض مئات المعارك وأنت تدافع عنه.. بتعصب، واستماتة!!
لكن هذا الإرث بكل محتواه، إنما هو في حقيقة الأمر، محاولة للإجابة على سؤالك المحير: ما جدوى الحياة؟ فقد تكفل هذا الإرث (الثقافي/ المجتمعي/ الروحي/ الأيديولوجي..) بمنح الحياة قيمة ومعنى، بل ومنحك شخصياً دورا وظيفيا في سياقها (لخدمة الدين، أو الدولة، أو الثورة، أو الوطن، أو المجتمع..) وستقنع نفسك أن دورك بالغ الأهمية، بل إنه لا يمكن تخيل حياتك دون هذا الدور (هذا إذا كنت متواضعا).. بل إن الدولة والمجتمع والدين إنما تعتمد عليك بالذات.. ودونك قد ينهار كل شيء.
سترجع إلى اللحظات الأولى من يقظتك، حين اكتشفت أنّ وجودك وعدمه في هذه الحياة سواء.. أي بالنسبة للآخرين ولمكونات الحياة الأخرى.. ولكن، بما أنك تحب نفسك، وتتمسك بالحياة (وهذا شيء طبيعي، بل وإيجابي)، من هنا، ستحارب.. لتثبت لنفسك أولاً، ثم للآخرين، أنّ وجودك مهم، ولحياتك معنى وقيمة.. وهنا؛ إما أنك ستمضي في حياتك ضمن نفس الظروف التي وُجدت فيها، منقادا، وتابعا، وخاضعا لخيارات ومسارات المجتمع (ما يدعى بثقافة القطيع)، وإما أنك ستختار لنفسك دربا منفردا، مستقلا، حرا.. وتعيد تعريف الحياة وفق مفهومك الخاص، وتعطيها القيمة والجدوى التي يقتنع بها عقلك الحر الواعي، المتحرر من كل إرث، ومن كل قيد..
ستدرك أن قيمة الحياة ليست هي الرقم الذي يعادل سنوات حياتك؛ بل هي في كيفية عيشك تلك السنين؛ بأية عقلية، وبأية نفسية خضت غمار الحياة..
ستعرف أن قيمتك الحقيقية (لذاتك، وفي عيون الغير) هي بمقدار ما تحبّ نفسَك (دون أنانية)، وتحب الآخرين (دون أن تخسر نفسك)، وتحب وطنك ومجتمعك (دون أن تتنازل عن حريتك)، وأن قيمتك بمقدار ما تعطي؛ فتصل إلى مستوى من الإنسانية تفهم فيه السعادة على أنها عطاء، وليست كسب.. مشاركة وليست انطواء..
وأنَّ "الحب" يقدم دعوة واعية للإنسان ليعيش مشروع تواجده الإنساني على هذا الكوكب، وليُخرج الحياة من عدميتها، ويمنحها معنى وجدوى؛ فبالحب ننثر بذور السعادة.