سيد إسماعيل ضيف الله - النجاح الإخباري - لا يمكن الزعم بأن الدولة الليبرالية على اختلاف تجلياتها في التجارب السياسية الغربية قد وصلت لحل نهائي جاهز، تقدم من خلاله نظاماً لتشكيل الهوية يمنع وجود تعارضات جذرية بين ولاء الفرد لذاته وولائه للدولة الوطنية التي يحمل جنسيتها، وفي الوقت نفسه لا يمكن نفي ما حققته الدولة الليبرالية من نجاح في مواجهة تحدٍ مهمٍ واجهته وهو التحدي المتعلق بنظام تشكيل الهوية. ما يمكن قوله أن ثمة عملية تفاوض تجري باستمرار في نظام تشكيل الهوية في الدول الليبرالية، وهذه العملية ذات طبيعة ثقافية، وفور تبلورها يكون لها آثار سياسية وقانونية على أرض الواقع، ورغم حرص الدول الليبرالية على التأثير في عملية التفاوض الجارية بشكل يومي في الشارع والبيت والسوق، من خلال برامج السياسات الثقافية وبرامج إدماج المهاجرين، فإن من الواضح أن الخوف من النتائج التي يمكن أن يصل لها الأفراد المتفاوضون على شكل هوياتهم، لا يصل لمثيله في العالم العربي الذي يقيد مبدأ التفاوض على الهوية من أساسه بإثارة الذعر من المساس بهوية يراها حرَّاس الهوية نقية ثابتة. وأزعم أن هذا الذعر الهوياتي العائق الأول أمام التحول للديمقراطية في العالم العربي، الأمر الذي يجعلني أعتقد أن التعارض أصيل بين الهوية المُتخيّلة على أسس دينية وعرقية والديموقراطية باعتبارها العقيدة السياسية للدولة الليبرالية. إن المجتمعات الليبرالية التي تجيد تسويق عقيدتها السياسية لمواطنيها ولغير مواطنيها مستفيدة من شبكات العولمة ومؤسساتها، لم تفقد سلطة الضبط الاجتماعي على مواطنيها، ومن ثم تزداد درجة الولاء بين هؤلاء المواطنين للدولة التي تحمي العقيدة السياسية المشتركة والملزمة لجميع المواطنين مادام هذا الإيمان بتلك العقيدة والالتزام بها يكفل حرية كل فرد في الإيمان بما شاء من أفكار وعقائد، مثلما تكفل له حق التفاوض اليومي على هويته الثقافية دينية كانت أو عرقية في حالة من التفاعل الخصب للهويات.
إن مثل هذه المجتمعات – في الغالب - تعرف كيف تتعامل مع التنوع بحكمة وإنسانية فتفرض التجانس في الهوية السياسية، التي هي هوية الدولة الليبرالية، وتربي في نفوس مواطنيها باستمرار المشاعر السياسية التي تمكنها من ذلك، لكن العولمة، وللمفارقة مثلها مثل الديكتاتوريات المستمدة لمشروعيتها من تكريس الذعر الهوياتي، تعاديان التنوع وتفرضان التجنيس الثقافي وإن ادعى أنصارهما خلاف ذلك. فغاية العولمة المزعومة تشكيل هوية إنسانية عالمية عابرة للحدود والقوميات، لكنها تتعصب للعالمية كهوية لمؤسساتها وكهوية مرغوبة لزبائنها، ولهذا يصيبها الذعر من أي طرح أممي أو عالمي آخر لهوية إنسانية، وفي الوقت نفسه تسوّق لزبائنها انتهاء عصر الإيمان بالهويات القومية/الدينية ذات الطموحات الأممية.
ومن هنا تعزز العولمة تشكيل الهويات على أسس دينية لكن لا تسمح لأي منها بمنافستها في طرح الهوية العالمية الإنسانية من على أرضية غير أرضيتها.إن الذعر من الهويات القومية /الدينية المتماسكة والزعم في الوقت نفسه بانتهاء عصر السرديات الكبرى واحدة من تناقضات العولمة .
ويبدو أن مأزق الدولة الوطنية في تشكيل هويات أفرادها يتمثل في وقوفها عاجزة أمام صناعة الهويات في سوق العولمة والصناعة الأصولية للهويات التقليدية. ومن ثم تظهر الدولة الوطنية في عالمنا العربي بلا عقيدة سياسية تدافع عنها، ومن ثم بلا هوية سياسية ملزمة لجميع الساكنين فيها. وغياب الليبرالية كهوية سياسية للدولة على هذا النحو يكرس للزعر الهوياتي الذي لا يمكن معه الحديث عن ديمقراطية حقيقية.
إن العولمة ومؤسساتها وشبكاتها تدعم بصوتٍ عالٍ الولاءات العرقية والانتماءات الطائفية للأقليات داخل الدول القومية والوطنية ليس حبًا في الهوية المحلية الطائفية أو العرقية، وإنما كراهية في وجود إمكانية لكيان سياسي قومي/ وطني مستند لسردية من السرديات الكبرى ولم يتم إخضاعه بعد ليكون جندياً ملحقاً بمؤسسات العولمة. وللمفارقة، فإن أقوى أسلحة العولمة في تحقيق هدفها الاستراتيجي هو الدولة الوطنية الفاقدة لليبرالية كهوية سياسية تلزم بها جميع ساكنيها بأن تكون الهوية المُلزمة للجميع بل العقيدة التي لا يحق لأحد من مواطنيها الخروج عليها ليضمن حقه في الاعتقاد.
إن افتقار الدول الوطنية للحكمة في إدارة عمليات التفاوض على الهويات ثقافياً وسياسياً على مدى عقود هو الذي جعل من التنوع مشكلة، بينما التنوع في خطاب الهوية السياسية الليبرالية سر قوة الدول، والذي تنازلت عنه طوعاً في معركتها مع العولمة؛ إذ كان يمكنها أن تنافس العولمة ذاتها في هدفها الاستراتيجي(الهوية الإنسانية العالمية) داخل رقعة الدولة الوطنية؛ وذلك بخلق هوية مستندة لمشروعية الوجود الإنساني المتنوع ثقافياً وعرقياً تماهياً مع قوانين الكون.
لم تفوت العولمة الفرصة السانحة أمامها؛ إذا أخذت بسلاح التنوع المُلقى على الأرض وجعلت منه سلاحاً مضاداً للدول الوطنية وراحت تدعم الأقليات العرقية والدينية دعماً مشروطًا بأمرين الأول أن تكون مشروعاً سياسياً مضاداً للدول الوطنية المستقرة التي لم ترضخ كلية لإدراة مؤسسات العولمة الاقتصادية والسياسية، والثاني ألا تتحول واحدة من أقليات اليوم العرقية أو الدينية إلى كيان سياسي مستند لسردية كبرى تحمي أفرادها من الاستغراق في سرديات العولمة الصغري والمتمثلة في نزعات الاستهلاك اللامحدودة كمشترَك وحيد بين مستهلكين ومواطنين في آن للهوية العالمية بعد تجنيسهم ثقافياً.
ولعل هذا ما يجعلني أعتقد أن الطريق إلى الديموقراطية يبدأ بالهوية، ولا سبيل لحل هذه المشكلة سوى بمسارين الأول افتراضي وهو وجود "أمة" يعيش فيها أفراد بلا معتقدات دينية مختلفة وبلا تباينات عرقية وبلا أيديولوجيات سياسية متباينة وبلا مصالح اقتصادية متعارضة، والثاني واقعي وهو وجود دولة تجعل من الليبرالية عقيدتها السياسية الملزمة للجميع فتتحول جميع الهويات داخلها لتكون بمثابة "هويات أقليات" تقع مسئولية حمايتها جميعاً على عاتق هوية جمعية وهي هوية الجميع/الدولة التي هي العقيدة السياسية للدولة الليبرالية.
ومع ذلك لا يمكن الزعم بأن الدولة شديدة التشبث بالليبرالية كعقيدة سياسية للدولة تستطيع أن تحمي أفرادها من الشعور بالانفصام بين الهوية الثقافية التقليدية والهوية السياسية أو بالأحرى بين وجودهم باعتبارها كائنات ثقافية ووجودهم ككائنات سياسية، لكن ما يخفف من وطأة هذا الشعور أنه شعور بالاغتراب الجماعي داخل الدولة. ويبدو أنه ليس هناك إمكانية للتخلص من من حالة الاغتراب الجماعي هذه ومن تلك الفجوة سوى بأن تكون هناك "أمة ليبرالية" موحَّدة على اليبرالية عقيدةً ومذهباً، ويكون ولاء كل فرد من أبناء هذه الأمة فقط لهذه العقيدة ولتلك الأمة، وأن يضرب بعرض الحائط أي انتماء لعقيدة أخرى أو لثقافة عِرق آخر. في حال توفر هذه "الأمة الليبرالية" يمكن لخطاب الهوية الليبرالي أن يبنى الدولة التي تحمي أفرادها من التعددية الثقافية والعِرقية ومن الاغتراب الجماعي في آن، لكن الدولة الليبرالية لا تفعل ذلك حقاً للأنه ليس هناك "أمة ليبرالية" ولأن التناقض في هذا التعبير بنيوي ما بين مفهوم الأمة ومفهوم الليبرالية؛ ولأن الرأسمالية (باعتبارها المرادف الاقتصادي لليبرالية وللعولمة) احتاجت دوماً بحسب تعبير تيري إيجلتون إلى مواطنين مؤمنين في المنازل وملحدين في الأسواق.
وإلى أن توجد مثل هذه "الأمة الليبرالية" المتخيّلة باعتبارها المدينة الفاضلة للإنسان المعولم، ليس أمامنا في الحاضر سوى الإقرار في عالمنا العربي بأن الذعر الهوياتي العائق الأصيل أمام الديموقراطية.
• كاتب مصري
عن الحياة اللندنية