عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - ماذا سيحدث للوزير أو مسؤول المنطقة لو استخدم سيارة عادية؟ أو لو أنه حمل حقيبته الشخصية بنفسه؟ أو لو أنه انتظر المصعد مثل بقية الموظفين؟ أو مشى في الأسواق كبقية الخلق، وزار بيوت العزاء دون مرافقين؟
وماذا سيحدث لأصحاب الألقاب الفخمة والمقامات العليا لو جردناهم من ألقابهم؟ ليس بقصد التقليل من احترامهم، فهذا غير وارد، بل لترسيخ ثقافة جديدة تقوم على احترام آدمية الإنسان بوصفه إنساناً أولاً، بغض النظر عن لقبه ومكانته الاجتماعية.. فمثلا بدلا من قول "فخامة الرئيس"، "دولة رئيس الوزراء"، "معالي الوزير"، "عطوفة الوكيل"، "سعادة السفير".. لنقل السيد فلان المحترم، وإذا كانت مخاطبة رسمية نتبعها بمسماه الوظيفي.
وهذا النهج مهم أيضا، لتكريس مفهوم "الخدمة" في الوظيفة العمومية، أي ليعرف المواطن والمسؤول أن الوظيفة العمومية مهما علت درجتها، لا تعطي ميزة لصاحبها، تجعله يتعالى على الآخرين؛ بل هي درجة تتناسب مع حجم المسؤوليات والصلاحيات والأدوار المطلوبة من صاحبها.. فالوزير، والمراسل، والمدير العام، وموظف الدرجة السابعة.. جميعهم متساوون أمام القانون، وكلٌ منهم مهم في مكانه ومكانته، وجميعهم لهم نفس الاحتياجات الإنسانية.
التواضع ليس مطلوبا فقط من القيادات الرسمية، التواضع صفة إنسانية ترتقي بصاحبها.. وتقرب القلوب من بعضها، والتواضع لا يعني التخلي عن الألقاب، بل استخدامها بالشكل الصحيح.
وهذا ينطبق أيضا على الألقاب غير الحكومية؛ فمثلا حين يعرّف شخص عن نفسه، بدلا من قوله "أنا الدكتور فلان"، أو "المهندس علان".. ليقل بكل تلقائية وبساطة أنا فلان الفلاني، وإذا كان هنالك ضرورة للتعريف بلقبه العلمي، أو مكانته الاجتماعية فليذكر ذلك بعد الاسم.. وثمة فارق كبير بين الحالتين.
ليس للإنسان ما هو أغلى من اسمه المجرد.. إذا كان واثقاً من نفسه، ومتحرراً من العقد الاجتماعية، ومن التكليف الرسمي الشكلي الممل، سيحبّ أن يناديه الناس باسمه الأول.. أو أبو فلان.. فاللقب لا يجلب الاحترام بالضرورة.
فمثلا، لو أراد "عبد الحليم حافظ" أن يعرّف عن نفسه سيكتفي باسمه المجرد دون ألقاب.. لكننا سنعرف أنه العندليب الأسمر، ومعبود الجماهير.. ولكن لو أراد فنان مغمور أن يعرّف عن نفسه، سيضع قبل اسمه لقب "الفنان الموهوب"، "النجم الساطع"، "المطرب الرهيب".. ولكن كل هذه الألقاب لن تجعلنا نطرب على أغانيه.
كما أن ألقاب "سماحة الشيخ"، و"غبطة البطريرك".. لن تغني صاحبها أمام الله والناس، مالم يكن إنسانا صالحا بحق.
وأيضاً، لو وضع كاتبٌ ما كل الألقاب العلمية قبل اسمه في مقال أو بحث معين، فهذا قد ينطلي على بعض الناس البسطاء، لكنه لن يقنع القارئ الواعي، الذي سيهتم بمضمون المقال وليس بلقب صاحبه.. أما الغريب، فهو حين يضع المؤلف لقبه قبل اسمه على كتبه، خاصة حين تكون في المجال الأدبي.. ديوان شعر، رواية، مجموعة قصصية.. فيكتب: الدكتور الروائي، أو المهندس الشاعر، أو الطبيب القاص!!
ولكن، كم يكون جميلا حين نقرأ كتابا متخصصا في مجال ما، والمؤلف يضع اسمه المجرد، ولكن بالبحث نكتشف أنه يحمل شهادة دكتوراه في هذا المجال، أو ذاك.
ومن الظواهر الغريبة في الإعلام المحلي، ما يقوم به البعض من تكلف غير محبب، فبدلا من الدخول في الموضوع مباشرة، والتحدث بوضوح وصراحة، يبدأ بالقول: "وقد صرح فلان بما يلي"، أو "قال النائب فلان كذا وكذا..."، ويكون هو نفسه من يكتب ذلك، ليوحي للقارئ أنه شخص مهم، وأن الإعلام يتناقل تصريحاته الخطيرة.. دون أن ينسى منح نفسه لقب الأمين العام لحزب الثوار الأحرار، صانع الأمجاد، وحامي الديار.
وبمناسبة الحديث عن الولع بالألقاب المركبة والتسميات الكبيرة، نجد هذه الظاهرة أكثر في المقابلات التلفزيونية، حيث يشترط صاحب اللقاء على الجهة المستضيفة أن تخلع عليه من الألقاب ما يضمن إصابة المستمع بالقشعريرة: "الخبير الإستراتيجي المتخصص في الدراسات الأكتوارية".. الكاتب الأديب، الباحث الأبتسمولوجي، والمحلل السياسي، والمفكر العروبي، عضو الأمانة العامة، الحائز على وسام الشجاعة من النوع الثاني.. وإذا أخطأ المذيع بقوله "سيادة العقيد فلان"، بدلا من "سيادة العميد"، أي أن المذيع خفّضه رتبة دون أن يقصد، فمن المحتمل أن يعتقله بعد المقابلة مباشرة.
الدرجة الأكاديمية لا تعني أبداً الموهبة والتميز؛ فمثلا محمد حسنين هيكل، يُعد واحداً من أعظم الصحافيين في القرن العشرين على مستوى العالم، ولكنه لم يدرس صحافة.. محمود درويش، نجيب محفوظ، محمد صادق الرافعي، توفيق الحكيم، عباس العقاد، غسان كنفاني.. كل هؤلاء الأدباء المبدعين العباقرة، لم يحملوا شهادات متخصصة في الأدب.. وجميعهم كانوا يكتفون بأسمائهم المجردة..
خلاصة القول، إن الإنسان هو من يصنع لقبه، وليس العكس. وهو من يفرض احترامه على الناس، وليس لقبه. ولا يمكن لأي لقب مهما كان مفخما ومعظما أن يُدخل صاحبه إلى قلوب الناس، ما لم يكن هذا الشخص متواضعا ومحبوبا لذاته، وليس للقبه، ومسماه الوظيفي.. لذلك، لا نستغرب حين نسمع عن شخص مسؤول كان يحظى بالاحترام والتبجيل أينما حل وارتحل، وعندما تقاعد، أو خرج من الوظيفة انفضَّ الناس عنه، ولم يعد أحد يفكر بالوقوف لمصافحته.. والسبب، أن الاحترام كان للقب الشخص وليس لذاته..
غواية الألقاب تقود صاحبها إلى التهلكة؛ معمر القذافي مثلا، كان يكتفي في بدايات عهده بلقب العقيد، ثم انتهى به الأمر إلى سطرين من الألقاب قبل أن تصل اسمه: الزعيم، قائد الثورة الليبية، أمين القومية العربية، عميد الحكام العرب، رئيس الاتحاد الإفريقي، ملك ملوك إفريقيا، قائد الطوارق، إمام المسلمين معمر القذافي.
ومن قبله فعل "عيدي أمين"، الذي سمى نفسه: صاحب السيادة، فاتح الإمبراطورية البريطانية، الحاج، الماريشال، الدكتور، أعظم رئيس في العالم، رئيس جمهورية أوغندا مدى الحياة عيدي أمين..
وكذلك فعل كل الطغاة، والمرضى النفسيين.