عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - دأب الخطاب الإسلامي على تصوير أي اعتداء تتعرض له طائفة من المسلمين على أنه هجوم على الإسلام، ومنهم من يربط ذلك بالحروب الصليبية، أو بمؤامرة كونية تستهدف استئصال الإسلام من جذوره، والقضاء عليه.
كما اعتادت أدبيات «الإسلام السياسي» على وصف أي انتقاد موجه لها، من أي جانب، على أنه تشويه للإسلام، أو لصد المسلمين عن دينهم، والتشكيك به، وأن هؤلاء المنتقدين لهم أجندات خارجية، وارتباطات مشبوهة بالغرب.
وحتى لو أتى هذا الانتقاد من داخل المؤسسة الدينية، فهو أيضا يندرج ضمن الحملات المعادية للإسلام.. فمن فسر القرآن بطريقة جديدة ومختلفة، أو شكّك ببعض الأحاديث، أو دعا لتجديد الدين، وإدماجه في مفاهيم العصر.. فهؤلاء على باطل، مغرضون، جهلة، يريدون أن يطفئوا نور الله.
باختصار، يختزل الإسلاميون الدين الإسلامي في قوالب جاهزة، ضمن إطار محدد، لا يحتمل أي اختلاف معه، ولا يقبل أي خروج عنه، لا من داخل الإسلام ولا من خارجه.. وأي مسلم يختلف مع هذه الرؤية هو من أعداء الداخل، الذين يجب تصفيتهم.. وأي انتقاد للدين تحت مسميات تجديد الخطاب الديني التي تتبناها مؤسسات أجنبية، فهو صراع الغرب الكافر ضد الإسلام، ومحاولاته الدؤوبة للنيل منه.
فهل فعلا هنالك حرب ضد الإسلام؟ ومن يقودها ويحركها؟
صحيح أن الإعلام الغربي يسعى لإظهار المسلمين بصورة المعتدي، وربط سلوكهم بالإرهاب والتخلف.. ولكن، هل هذا بسبب الحقد على الإسلام؟ أم نتيجة تصرفات بعض المسلمين، سواء التصرفات الفردية غير المقبولة، أو في العمليات الإرهابية التي طالت معظم بقاع الأرض!
وقبل الاسترسال، لنفهم ما المقصود بمصطلح الغرب؟
هل الغرب هو العالم المسيحي؟ أم كل ما هو غير إسلامي (من كافة الديانات)؟ أم الغرب أوروبا وأميركا بشكل خاص؟ هل هو الشعوب، أم الأنظمة، أم كلاهما؟
إذا كان الغرب هو العالم المسيحي، فهذا يعني أكثر من ملياري إنسان، منتشرين في مائتي دولة؛ فهل يعقل أن هؤلاء مجمعون على عدائهم للإسلام؟؟ وإذا كان الغرب هم الكفار (أي غير المسلمين)؛ فهذا يعني ثلاثة أرباع البشرية!! وإذا كان الغرب أوروبا وأميركا، فنحن أمام 50 دولة، لكل دولة مصالح ومشاكل وتطلعات وهموم ومشاريع تختلف عن الأخرى.. والتعميم في أي حالة سابقة هو ضرب من الغباء.. ومن السذاجة الاعتقاد أن الغرب شيء موحد ومتسق، وكأنه على قلب رجل واحد! ومن الخطأ إغفال الفروقات بين الشعوب والحكومات، أو تجاهل دور النخب، والتيارات الفكرية المتنوعة والأحزاب وقوى المجتمع المدني.. أو إهمال التناقضات بين الطبقات، والتباينات بين الفئات الاجتماعية، أو الاختلافات التي تنشأ مع الأجيال.. أو تناسي تاريخ طويل من الحروب والصراعات الدامية داخل المجتمعات الغربية نفسها، وضد بعضها البعض.
وهذا ينطبق بالضرورة على العالم الإسلامي.. الذي يضم طيفا واسعا من التيارات الفكرية، والأحزاب، والقوى الاجتماعية والطوائف، والملل، والإثنيات، والتنظيمات التي تقاتل بعضها.. ومن البديهي أن ينشأ عن هذا الطيف تنوع واسع في الرؤى والأفكار والاجتهادات والمدارس.. سواء فيما يخص القضايا الفكرية المختلفة، أم في القضايا اليومية والسياسية، وحتى في أمور العقيدة، والنظرة العامة للإسلام، وطبيعة فهمه بمناظير ومعايير مختلفة.
إذاً، نحن أمام حالة متشابكة، معقدة، متداخلة، متحركة على الدوام، بلا حدود فاصلة.. وأي تنميط هنا، أو تحديد معسكرات، و»فسطاط حق»، و»فسطاط باطل».. وغير ذلك من تصنيفات، إنما هو تصنيف أيديولوجي، متوهم وافتراضي (لا تاريخي، وغير حقيقي)، يستخدم بلاغات اللغة، بكل براعات فن التضليل.
وطبعا كما يستخدم «إسلاميون» هذا الخطاب التصنيفي، يستخدمه أيضاً منظرون غربيون، يروجون لفكرة «صراع الحضارات».. وهي فكرة استعمارية استعلائية عنصرية.. هدفها تبرير السياسات الإمبريالية، وتوجيه الرأي العام بما يخدم مصالح الفئات الحاكمة.. أي الترويج لفكرة الحروب والاحتلال ونهب ثروات الشعوب.. وهذه الفكرة تتناقض مع حقيقة العالم، ومحركات التاريخ، وتحول دون فهمه بشكل علمي موضوعي، على أنه شبكات متداخلة من العلاقات الحيوية، والمصالح المتبادلة، والتواريخ المتشابهة، والمصائر المشتركة.. وأي تقسيم لهذا العالم، هو حراثة في البحر (على حد تعبير إدوارد سعيد).
وطبعا، هذا لا ينفي وجود جهات معادية، تخطط وتتآمر.. وما «سايكس بيكو»، وإنشاء إسرائيل إلا أدلة واضحة على ذلك.. لكن السؤال مرة ثانية، هل الدافع والمحرك «حقد على الإسلام»؟ أم دوافع اقتصادية، بمحددات سياسية وتبريرات أيديولوجية معينة؟
وإذا افترضنا جدلا أن «الغرب» يعادي العالم الإسلامي؛ فالسؤال، لماذا؟ هل لدى العالم الإسلامي ما ينافس به الغرب، لدرجة استجلاب العداء! علوم، تكنولوجيا، صناعات، اختراعات.. قوة عسكرية، أو اقتصادية.. أي شيء مميز!! أم أن كل ما لدينا من أياد عاملة، وسوق استهلاكي كبير، ومواد خام ينهبونها منا دون أي احتجاج؟
سيجيب البعض أن «الغرب» يعادي المسلمين لأنه يعلم يقينا أن لديهم عناصر القوة الكامنة، التي لو استخدموها تفوقوا على الغرب بكل سهولة.. وطبعا القوة الكامنة هي عودة نظام الخلافة.
لو قيل هذا الكلام في سياق الحروب الاقتصادية بين الكتل الاقتصادية العالمية (أميركا، الاتحاد الأوروبي، الصين، اليابان...إلخ) لكان ذلك منطقيا، ومفهوما.. فالصين مثلا، لديها الكثير من عناصر القوة التي تسمح لها (مستقبلا) بالسيطرة على العالم، والتحكم فيه، وتهديد الحضارة الأوروبية، والأميركية... ومع ذلك لا نسمع عن الحقد الغربي على الصين، أو على البوذية.
وأخيرا، انتقاد الخطاب الإسلامي، ليس هجوما على الإسلام، بل هو نقد ذاتي مشروع، بدونه لا يمكن أن نتطور، وهو محاولة لكسر احتكار «الإسلاميين» للإسلام، وتحرير الخطاب الديني من الإطار السلفي الضيق والمتزمت، الذي يرفض الاعتراف بمعطيات العصر.
أما محاولات «دمقرطة» الإسلام، و»عصرنته»، و»تحديثه».. التي تتبناها بعض المؤسسات الغربية، فهي موجهة بشكل أساسي للجاليات المسلمة في بلاد الغرب، بهدف إدماجهم في المجتمع، لأن هذه المجتمعات باتت تخشى على مستقبلها، وتريد أن تتمسك بأنماط حياتها التي اختارتها لنفسها.. وتريد لهذه الجاليات أن تتعايش معها بنفس المفاهيم والأساليب الحداثية.
ولو كان هذا الغرب يحقد على الإسلام، لما سمح لملايين المسلمين بالهجرة إليه، ومنحهم حقوقا إنسانية يتمنونها في بلاد المسلمين.