عيسى قراقع - النجاح الإخباري - عيسى قراقع - نائب في المجلس التشريعي
رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين سابقاً
أكثر من 500 أسير فلسطيني محكومين بالمؤبد وعدة مؤبدات يقبعون في سجون الاحتلال الاسرائيلي، الصبح لا ينبلج عليهم من أبواب مصفحة وأسوار عالية مشيكة، ولا تنهال عليهم خطوط سماوية بيضاء تأخذهم قليلاً خارج العتمة ليمارسوا الطيران.
الأسير القائد مروان البرغوثي المحكوم بخمسة مؤبدات و أربعين عاماً، ويقبع منذ 17 عاماً في سجون الاحتلال، تدرب على المنفى ودرس بامتياز فقه العزلة و العزل، وتعود على الابتعاد عن البيت حتى منتصف الليل، كان يخلو الى الشجر والناس ليجمع بين أحلامه و خيالاته فأدهشته رائحة الألم المجبولة بالتراب، يتوالد السابق مع القادم في الجهات وفي المؤبدات وفي الكلمات.
سأظل اكتب عن مروان البرغوثي، لأنه أقلق الواقع الاسرائيلي وفضح نزعاته الفاشية و العنصرية، يرفض مروان ان ينهار العالم خلفه، الزنزانة صارت ميداناُ للفروسية، المحققون انسحبوا من ليل المسكوبية، يضع قدمه على العتبة الفاصلة بين الأفق والهاوية.
البرغوثي يرى أن العالم يتشكل أمامه، يرمي حجراً، يكتب رسالة، يدلي بتصريحٍ صحفي، يقرأ و يدرّس الأسرى و يجترح الشهادات، مقاعد جامعية و ليست مقاعد حجرية، لم يمت، لم يصبح رماداً وهباءً كما تمنى الأسرائيليون، لقد انتصر على قيادة تل ابيب في لعبة الأقدار.
البرغوثي يفلح في لملمة الوقت الغائب و الحاضر، يستدعي الحلم من الصورة ويتنافس مع الضوء في العتمة، حاكم دولة الاحتلال على جرائمها المنظمة، افلت من السجن السري ومن طائرات الاغتيال، الان يشارك في الجنازات والاعراس والسهرات والانتخابات والانتفاضات و الابتسامات ويلتهم الحياة.
البرغوثي يخوض اضراب الحرية والكرامة على مدار 42 يوماً في 17 نيسان 2017، لأنه اراد ان يجدد الروح والتقوى في بلاغة الضحية، قبل ان يسحقها الجلاد ويجردها من المعنى الوطني والانساني والقانوني، هنا في السجون صوت حرية، لا طاعة ولا مساومة لا مرور عن حاجز او القبول بأغلاق الباب، وعندما سألوه لماذا يخوض الأضراب؟ قال أريد ان اتحرك الى الامام، الجوع حركة مرئية.
البرغوثي أرادوه قتيلاً خارج السجن و قتيلاً كسيحاً مهزوزاً داخل السجن ,وضعوه في قبر في سجن الجلمة خلال الأضراب, كان يوقظ البرق بين الساعة والساعة، ظلامٌ يابس، دم وصمت كثيف كثيف، أسرى يصارعون الموت في ملحمة لم يُكتب عنها بعد، كان يغني وينتظر اليوم القادم، هنا رطوبة عالية في الزنزانة وفي جسده الكثير من الحرارة.
خمسة مؤبدات وأربعون عاماً، لماذا هم قلقون من أسير ربما يعود الينا حياً او ميتاً؟ لا ينافس احداً، لا يجلس في مزرعة أو على شاطئ بحر، لا يسافر كثيراً، لماذا يتحالفون ضده؟ يوشوشون، يتحسبون، لا ينامون، خائفون، يترصدون ويراقبون، ينتظروه جثةً او مجنوناً، يراهنون على انتصار الزمن الثقيل وسياسة الهيمنة والسلبطة، يقفلون عليه الوقت والصوت، ولازالوا فوق المنصة؟!.
خمسة مؤبدات وأربعون عاماً، فصل النهاية مفتوح الى ما لا نهاية، هكذا أعلن مروان البرغوثي، لا أحد يحدد المصير لأحد، لا السجان ولا الانتهازي المتسلق، ولا الذين نزلوا الى المنحدر، هو يحلم انه في القدس العاصمة وليس في شوارع تل أبيب، هو يحلم انه في رام الله وليس في مكان بلا قصبة وايقاعات.
خمسة مؤبدات وأربعون عاماً، هل يعرفون ذلك؟ الأيام، الساعات، الثواني، الحزن والكآبة، النوم المتوتر واليقظة المقموعة، الاشتياقات المجروحة و الذكريات الناقصة، اللهفات الى الهواء النقي الخالي من غبار النفوس الميتة، هل يعرفون يوم السجن؟ نهاره و ليله، وساعة الظهيرة؟ الحياة و الموت في اشتباك متواصل مع الزمن الذي يمر بأقصى سرعة، هل يعرفون ذلك؟
خمسة مؤبدات وأربعون عاماً، هو صناعة فلسطينية بامتياز كما يقول، لا يحمل سوى جواز سفر فلسطيني، مكان اقامته الوحيد فلسطين، ليس له منزل آخر خارج اكناف بيت المقدس، لن يذهب أذا اشتدت العاصفة الى أي مكان آخر الا الى السجن او الى البيت او الى قبر متواضع يحيط به أشجار الصبّار ورائحة الطابون في قرية كوبر الكنعانية.
خمسة مؤبدات وأربعون عاماً، لن نصير مثلهم، قال مروان البرغوثي للدكتور السجان "بيطون" مسؤول الاستخبارات في ادارة سجون الاحتلال الاسرائيلي خلال خوضه الإضراب المفتوح عن الطعام مع ألف أسير فلسطيني آخر، لن نصير مثلهم، لا نبحث عن صفات النهر، نبحث عن النهر، لا نبحث عن طريق التفافي لنصل البيت، نبحث عن الطريق، لا نبحث عن ظل الشجرة، نبحث عن الشجرة، الدروب كثيرة ووعرة، سنصل الى الهدف، لا زال في عمر الخمس مؤبدات وأربعين عاماً الكثير من المؤونة والوقت.
كتب لي: «من يرضى عنه السجان لا يستحق الحرية»!