برهوم جرايسي - النجاح الإخباري - الاتفاق المتبلور بين حكومة الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس، بشأن وقف إطلاق النار، والمقابل المتمثل بتسهيلات للحياة العامة في قطاع غزة؛ حسب ما ينشر في شتى وسائل الإعلام، يستدعي القلق من نواح عدة. وأولاها أن هذا اتفاق بين حكومة احتلال وفصيل فلسطيني، يتم فيه تحييد منظمة التحرير الفلسطينية؛ الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وثانيا، أن سقف الاتفاق هو ترتيب ظروف المعيشة في الزنزانة المسماة قطاع غزة.
وهذه ليست المرّة الأولى التي تفاوض فيها حركة حماس، حكومة الاحتلال، وكون "المفاوضات غير مباشرة"، ونقل الرسائل يتم عبر طرف ثالث، لا يقلل من حقيقة أنها مفاوضات قائمة. وأن يكون الاتفاق ليس مكتوبا لدى الطرفين، أيضا لا يلغي وجود الاتفاق. فمثلا، تغنت حكومة بنيامين نتنياهو حتى قبل بضعة أشهر، بأن الحدود مع قطاع غزة شهدت، لحوالي ثلاث سنوات، هدوءا غير مسبوق منذ العام 2006. وكان هذا الهدوء أيضا ثمرة اتفاق غير مكتوب بين الطرفين.
وواقع الحال يثبت أن حركة حماس تريد استمرار السيطرة المطلقة على قطاع غزة، فحتى وإن كان القطاع محاصرا من الاحتلال، وهذا هو الأساس، فهي تسيطر على كامل تفاصيل الحياة الداخلية. وتقرر بأي نشاط سياسي عام، لكل الفصائل والحركات، كما أن دخول قيادات سياسية فلسطينية الى القطاع، مرهون بموافقة حماس. ولأن مسألة إنهاء حالة الانقسام، باتت مثل حكاية "ابريق الزيت"، فإن تهمة الإفشال تقع على من يتهرب من إجراء انتخابات فلسطينية عامة، تشريعية ورئاسية، لتضع الأمور في نصابها، بقدر ما تجيزه ظروف الاحتلال.
وقبول حركة حماس بإجراء مفاوضات بصفتها "الحاكم" في قطاع غزة، يعني تحييد منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن هذه نقطة التقاء مع أهداف حكومة الاحتلال، التي تروج الى عدم وجود عنوان واحد للشعب الفلسطيني، وهي الآن ستسعى لإثبات هذا، بكون أنها أبرمت اتفاقا مع حركة حماس، بصفتها "الحاكم" في بقعة جغرافية فلسطينية.
ولا يوجد أي مبرر لأي جهة فلسطينية، بتجاوز منظمة التحرير الفلسطينية، ولا تحت أي ذريعة، خاصة وأن حماس خاضت مسارات م.ت.ف، وقبلت ضمنا باتفاق أوسلو، وغرقت فيه، في اللحظة الأولى التي قررت فيها المشاركة في الانتخابات التشريعية في العام 2006. وهي انتخابات جرت بموجب اتفاق مع حكومة الاحتلال، بما في ذلك مشاركة حماس في العملية الانتخابية.
إن تجاوز منظمة م.ت.ف هو خطوة سياسية خطيرة على مستوى الشعب الفلسطيني. فمعروف أن حال منظمة التحرير مقلق لدرجة كبيرة. وانعقاد دورة المجلس المركزي، وسط مقاطعة فصائل، بغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذه الخطوة، يعمق الأزمة. ولا أجد أحدا بريئا مما آلت اليه الأمور في المنظمة. ودائما اللوم يقع على الجسم الأكبر، من باب أن مسؤوليته أكبر من غيره. ولكن كل هذا لا يبرر تجاوز المنظمة.
إن الحديث عن "اتفاق" يتعلق بما يصفونه تحسين ظروف المعيشة، في قطاع غزة. والتعبير الأصح: "تحسين ظروف المعيشة في زنزانة قطاع غزة"، يصب أولا وأخيرا في مساقات فرضها الصهاينة. والآن أكثر من ذي قبل، تدفع بهذه المساقات، المجموعة المسيطرة على البيت الأبيض، التي تتحرك كدمى، بخيوط اليمين الاستيطاني الصهيوني.
فهذا ما نسمعه عن الرزمة التي يحاول البيت الأبيض تسويقها، ويعتبرها "حلا للقضية الفلسطينية"، بتسمية "صفقة القرن". وكل تبريرات حماس، وتغليف الاتفاق مع حكومة الاحتلال بديباجات نارية، لا يمكن أن يستر الحقيقة. وما هو مضمون، أن حماس ستبقى مستهدفة من الاحتلال، الذي سيعود لتوجيه الضربات لها، بعد مرور الوقت الذي يتسنى له فيه، تمرير "الصفقة" أو أجزاء منها، وخاصة بما يضرب مسألة التمثيل الواحد للشعب الفلسطيني.
إذا أرادت حركة حماس إثبات أهداف ونوايا أخرى، لما أقدمت عليه أمام الاحتلال، فعليها الدفع نحو اتفاق حقيقي لإنهاء حالة الانقسام، ورفع يدها عن قطاع غزة، نحو انتخابات تشريعية حقيقية، ولتكن نتيجتها ما تكون، طالما كانت نزيهة.
وفي المقابل، فإن حال منظمة التحرير لا يمكنه الاستمرار كما هو، وعلى الحركة الأكبر "فتح"، أن تكون المبادر لإصلاح الوضع، وفتح الأبواب لحوار يحكمه المشروع الوطني الفلسطيني فقط. ولكن لا أقل أهمية، ولربما أكثر، هو إعادة المنظمة الى مكانتها الطبيعية، وأن تكون فوق السلطة الفلسطينية، وليس العكس.
عن الغد الاردنية