سمير الزبن - النجاح الإخباري - بعد النكبة، كان على الفلسطينيين أن يقدموا هويتهم بوصفها القاسم المشترك من دون شوائب. شعب استطاع تشكيل هوية موحِّدة في ظل أقسى ظروف التفكك والشتات. لقد بات الفلسطينيون كأفراد يتعاملون مع هذا المنجز بوصفه معجزة. ولأن الجماعات المهددة تحتاج إلى أسطرة متعالية من أجل إنجاز وحدة هويتها في مواجهة التفكك والشتات، فقد كان المتخيل الفردوسي هو الأساس الذي انبتت عليه الهوية الوطنية الفلسطينية الحديثة.
تم التعامل مع هذا الإنجاز بوصفه إنجازاً كبيرا في مواجهة المشروع الصهيوني وفي مواجهة الإلغاء العربي والإقليمي. لكن لم يرغب أحد في أن يرى، أنه ليس هناك هوية موحدة، وأن الهوية، في الوقت ذاته، هويات تحمل التنوع والتناقضات، حتى عندما تعلي ما تريد أن تراه وترفض ما لا تريد أن تراه. في جميع الحالات، عملت هذه النظرة للأسطرة الذاتية على توليد نوع من العنصرية المعكوسة، ولكن هذه المرّة ليس في مواجهة العدو الصهيوني، بل في مواجهة الشقيق العربي، بوصف الفلسطينيين شعباً صُنع من نسيج آخر يختلف عن النسيج الذي صُنعت منه الشعوب العربية الأخرى. وهو يختلف عنها جوهرياً، بحكم طبيعته العبقرية التي جعلته يخترع هويته الوطنية من لا شيء، وأعادته «الرقم الصعب» في المنطقة، حسب الصيغة المحببة للراحل ياسر عرفات.
هكذا كانت صورة الفلسطينيين عن أنفسهم، شعب أسطورة، وأن العقبات التي أمامه هي عوامل خارجية معيقة، لو توافرت لهم الظروف المواتية، لكانوا غيروا خريطة العالم وليس خريطة المنطقة فحسب، وهو شعار سبق أن رفعوه فعلاً. طبعا، لا تزال هذه الصورة قائمة في رؤوس بعض الفلسطينيين على رغم كل الوقائع العنيدة التي مرت في تاريخهم وتقول غير ذلك.
انتظرنا حتى يعود الفلسطينيون لحكم أنفسهم جزئياً، لنكتشف، لمن رغب أن يكتشف، أننا شعب مصنوع من نسيج المنطقة الاجتماعي والهوياتي، ولنكتشف أننا في كثير من الحالات أنتجنا هوية أسوأ من تلك التي أنتجها جيراننا العرب، الذين عشنا بين ظهرانيهم عقوداً واعتبرنا أنفسنا متفوقين عليهم. ولأن تشكل الهوية الحديثة للفلسطينيين قام على أساس متخيل فردوسي متجاوز للواقع القائم، وحتى متجاوز للواقع الممكن، فقد صدم الفلسطينيون عندما انهار هذا الفردوس في المفاوضات التي أسفرت عن اتفاق أوسلو. فقد دخلت المفاوضات بنسب أرض وبخريطة جغرافية عجيبة، لا تمت بأي صلة للخريطة التاريخية التي انبنى عليها الفردوس. وهو ما أعاد الفلسطينيين إلى أرض الواقع محطماً وطنهم المتخيل وفردوسهم المفقود الذي كانوا يأملون باستعادته كاملاً في المستقبل، وقالت لهم الوقائع إن المشروع الصهيوني ابتلع أغلب أرضكم الفردوسية، وتحول التعامل معهم من شعب واحد إلى تجمعات بشر فائضة عن الحاجة في هذا المكان أو ذاك.
ولأن الوطنية الفلسطينية الحديثة كانت نتاج متخيل جمعي ضد التاريخ، أخذت الوطنية الحديثة في التحلل عندما دخلت التجربة حيز الجغرافيا المتاح، وأخذ الشعب الفلسطيني يفقد وحدته، وبالتالي دخلت هويته مرحلة التفكك. وكانت ذروة هذا الاكتشاف الانقسام الدموي على جزء من أرض الوطن، الذي كانت فيه الهويات الجزئية أقوى من الجامع التاريخي للفردوس المتخيل، وهو ما أعطى المؤشر إلى أن الهوية الفلسطينية هي خطاب وهمي مثل كل خطاب هوياتي، بل خطاب ينتمي إلى مجاله العربي بوصف الهوية في العالم العربي «ليست شيئا آخر غير الزيف والتدجيل وقد رفع إلى بلاغة الأيديولوجيا» على حد تعبير عزيز العظمة.
وعندما نشب الصراع الداخلي، أخذت الهويات الجزئية تطفو على السطح. صحيح أنها حاولت أن تخفي نفسها من خلال التبجح بشعارات وطنية، ولكنها كانت آخذة في تصغير الآخر، فالعنف -بحسب ما يلخص أمارتا صن في كتابه «الهوية والعنف»- هو نتاج «للآثار المروعة لتصغير الناس» وهو ما يولد فن بناء الكراهية الذي يأخذ شكل إثارة القوى السحرية لهوية مزعومة السيادة والهيمنة تحجب كل الانتماءات الأخرى، وعندما تُعطى هذه الهوية شكلاً ملائماً ميالاً للقتال، يمكن أيضا أن تهزم أي تعاطف إنساني أو مشاعر شفقة فطرية قد تكون موجودة في نفوسنا طبيعياً. والنتيجة يمكن أن تكون عنفاً عارماً مصنوعاً داخل الوطن، أو إرهاباً وعنفاً مراوغاً ومدبراً على مستوى كوكبي. وكما يشرح صن أيضاً، بهذه الآلية يتم تحويل البشر إلى آلات للقتل، لأن التمترس خلف هوية جزئية واختزال الآخر إلى بعد وحيد وتحشيد الناس خلفها في مواجهة الآخر الداخلي، هو عنوان انسداد تاريخي أنتج عنفاً داخلياً، رفع خلاله الضحايا شارات النصر على جثث ضحايا مثلهم. هذا ما شاهدناه في غزة، في معركة تحريرها من الإخوة الأعداء، ولكننا لا نريد أن نرى ما يقوله هذا المؤشر بوضوح، وهو أن فلسطينيين يحملون هوية الغائية ضد فلسطينيين، تختزل الآخر الفلسطيني إلى بعد واحد، ما جعل من الممكن قتله تحت شعارات وطنية، ولكنها في حقيقتها اختزالية لا يمكن أن تنتج سوى العنف، فكانت تلك واحداً من عيوب الهوية العميقة التي لا نريد أن نراها ولا نريد أن نطرحها للنقاش. اليوم، نشاهد هذا التشوه في الهوية الوطنية الفلسطينية، في فقدان الحساسية تجاه المذبحة السورية الجارية، واحتقار آلام الضحايا بدل التضامن معهم بوصفهم يشاركوننا المكانة في الانتماء إلى المظلومين. إن التعاطي الفلسطيني لدى قوى سياسية وفئات اجتماعية مع المأساة السورية، هو مرآة عاكسة لتشوهات تكوين الهوية الوطنية الفلسطينية، التي فشلت في التضامن مع ضحايا ظلم آخر. ولا يغير وجود أقلية فلسطينية عبرت عن وقوفها إلى جانب الضحايا على طول الخط، من عار احتقار ضحايا (فلسطينيين) لآلام ضحايا (سوريين) يشبهونهم.
عن الحياة اللندنية