أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - أراهن أن لا أحد بات يعرف ما الذي يجري باستثناء دوائر صغيرة بين السياسيين وأجهزة المخابرات، وأراهن أيضاً أن الجميع بات يستشعر كل شيء مما يدور ومن حركة الطائرات الكثيفة واللقاءات المكوكية التي تجري بين أطراف السياسة والتي تكثفت في الآونة الأخيرة والتي جميعها تضع الملف الفلسطيني أمامها سواء فوق الطاولة أو تحتها.
صفقة القرن .. الخطة الأميركية القائمة موجودة ويمكن تلمس أطرافها هكذا يفهم بوضوح، وأيضا تبدو غير موجودة لأن أطراف الصراع الحقيقية لم تعرف تفاصيل ولم يقدم لها شيء، حتى الإسرائيليون يخشون المفاجأة وهكذا يفهم بوضوح وما بين وضوح ووضوح يبدو الغموض هو أكثر ما نراه من شدة الوضوح فالجميع ينتظر ما سيفاجئ الأميركيون به الجميع.
لدى فوز الرئيس ترامب بالحكم كتبت مقالاً هنا في هذه الصفحة بعنوان «حتى نفهم أميركا» أشرت فيه إلى طبيعة تشكيل الدولة الأميركية، وأن أجزاء من الوطن الأميركي تشكلت بصفقة تجاربة مثل ولاية لويزيانا باعتبار أن ثقافة الصفقة جزء من العقل السياسي الأميركي، ومع وصول رئيس قادم من عالم العقارات والصفقات كان التوقع أن يذهب باتجاه صفقة ما وهو ما حدث ليجرى إلقاء مصطلح الصفقة «صفقة القرن».
وما بين الثقافة السياسية الأميركية المتجذرة من أصول الهوية والبدايات ورئيس هو خلاصة الفكر السياسي، وتتجسد به شكلاً ومضموناً تلك الثقافة وهو ابن السوق والمضاربة والمغامرة ومفاوضات التجارة، وما تحمله من لغة مختلفة وصولاً لإتمام الصفقة ففي عالم العقارات والمضاربات يستخدمون كل الوسائل للوصول إلى الهدف.
هل يعتبرنا الرئيس الأميركي الناجح تجارياً مادة للتجربة أو نصلح لأن نكون حالة تشبه تاريخه في عالم العقارات؟ أغلب الظن نعم، لأن برجه الشهير في نيويورك «برج ترامب» أكثر أهمية من كل التاريخ والحاضر والمستقبل الفلسطيني بلا أدنى شك، لذا من الممكن أن نفسر ما الذي يحدث إذا ما تأملنا طبيعة الرئيس الأميركي والطاقم المساعد له من غرينبلات لكوشنير وفريدمان، وهم إما شركاء في التجارة مثل صهره أو المحامين الذين عملوا لصالحه في شركاته العقارية ومارسوا ما يكفي من التجربة على ظهر زبائن تم اصطيادهم ودفعهم لتقديم تنازلات لبيع ممتلكاتهم وهذا عالم واسع.
في عالم التجارة واصطياد الزبون يجري إعداد سيناريو محكم تستخدم فيه كل الوسائل بدءا من الإشاعة وأساليب الضغط مرة والإهمال مرة، كأن الأمر لا يعني المشتري حتى يزحف الزبون، وحرب نفسية يعرفها رجال السوق ومفاوضات تجري وتفشل متعمداً وخلال ما بين التفكير بالصفقة وإتمامها يجري تأهيل الزبون على نار هادئة ما أن تعرض الصفقة يكون قد تم إنضاجه ليكون جاهزاً.
هذا يحصل معنا نحن الفلسطينيين إذا ما تابعنا المسار خلال الأشهر الماضية، مرة هجوم سياسي أميركي على المنطقة عنوانه صفقة القرن والصراع مع إسرائيل، ومرة يتم تسريب أن الرئيس الأميركي قد يرفع يده عن الملف نهائياً ثم يعود تسخين الملف متحاوراً مع من لا يعنيهم الأمر من بعيد لإرسال رسائل غير مباشرة للمعنيين المباشرين كأساليب ووسائل نفسية في غاية الصعوبة جعلت تصريحات المسؤولين الفلسطينيين متضاربة إلى حد ما لديها شعور كبير بالخوف تدافع عن نفسها بلا معرفة لا تقف على أرض صلبة ترى كل ما يدور حولها ويظهر كأن الأميركي حاصرها من جميع النواحي كأنه يتم التحضير للاستفراد بها.
هل يمكن القول إنه يتم إنضاج الفلسطينيين على مهل في القدر؟ كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما صاحب نظرية ترك القدر يغلي بالطرفين إلى أن ينضجا دون سرعة التدخل، فالرئيس أوباما قادم من عالم الانتلجنسيا الأكاديمية التي تمارس السياسة وفقاً لقوانينها التاريخية وتجارب البشرية، لكن الإدارة الحالية تجيء من عالم مختلف تماماً ومتضارب مع كل منظومة القيم المختلفة عن الإدارة التي سبقتها .. نحن أمام رئيس تسلم من والده شركة مفلسة نجح في جعلها أكثر الشركات نجاحاً في الولايات المتحدة .. رئيس متهور مغامر يعتقد أنه لا يفشل أبداً ويعتقد أن لديه من العبقرية ما يمكنه من تحقيق أي شيء، ويتعامل باستخفاف واستهانة بالجميع وبجهل تام بالتاريخ والذي بالعادة لا يعني رجال التجارة.
وقد ظهر هذا واضحا في السادس من كانون الأول الماضي حين أعلن مغامراً أن القدس عاصمة لإسرائيل.
إن العلاقة السيامية جداً بين إدارة اليمين في إسرائيل والإدارة الأميركية والتي تثير تساؤلات حتى بين المراقبين الإسرائيليين مدعاة للخوف، وإن هذا التماثل في هذا الظرف بالذات الذي تقود فيه إسرائيل إدارة وحكومة هي الأكثر تطرفاً منذ نشأتها ولديها تصورات تصفوية مسيحانية تنطلق من عقائد وأساطير أصبحت تربطها علاقة مصاهرة بالرئيس الأميركي وتسكن بيته هذا مع رئيس يتصرف باندفاع تجريفي يبدو الأمر مقلقاً.
الذي يرفع منسوب القلق ويحوله إلى هاجس حقيقي هو طبيعة تكامل الظروف في غير صالح الفلسطينيين ليس فقط إسرائيلياً وأميركياً بل فلسطينياً، وما تشهده من غياب للمؤسسة وتراجع حضورها سواء على صعيد السلطة أو المنظمة بالإضافة إلى الانقسام الذي يسهل تمرير أي مشروع، فالحالة الفلسطينية لم تكن هشة كما هي عليه الآن لتبدو كل مصداتها قد انهارت أمام أي مشروع وكذلك الحالة العربية لم تكن ضعيفة إلى هذا الحد وهي تشكل العمق الاستراتيجي الداعم للشعب الفلسطيني، فقد بدت بعد الزلزال الذي ضرب الإقليم وأعاد قلب الأولويات وحطم دولاً عربية وأضعف بعضها، وبالتالي يبدو أيضا أن قدرة العرب على الصد ودعم الفلسطينيين منعدمة.
ووسط هذه المناخات لا بد للقلق أن يسيطر ما بين هذا الهجوم السياسي الكاسح بكل هذا الوضوح الغامض ..!
عن صحيفة الأيام الفلسطينية