ناجي صادق شراب - النجاح الإخباري - استاذ علوم سياسية-غزة
حال الإنقسام السياسي الفلسطيني أشبه بأسطورة البطل الأغريقي سيزيف الذي عاقبته الآلهة بدفع حجر ضخم الى أعلى بحمل الجبل، وكلما تسلق يتدحرج الحجر ويعيد الكرة من جديد ويلهث، ولينتهي إلى حيث بدأ دون أي نتيجة.
الإنقسام الفلسطيني أشبه بهذه الحالة العبثية، حيث العديد من الإتفاقات ـ والتصريحات وكأنها هروب من تحمل المسؤولية عن الإنقسام. ويبدو أن الإنقسام بات خياراً على مستوى طرفي الإنقسام، وهذه حقيقة، وهنا يكمن خطر الإنقسام في انه يرتبط بخيارات كل من «حماس» و«فتح»، وبعيدا عن التمسك بالخيارات الوطنية، وخيارات وحدانية الاحتلال ووحدانية القضية، فهذا لم يعد قائما.
وبدلا من وضع الرأس كالنعامة في الرمال والتي تعتقد أنها ترى كل العالم والعالم لا يراها، هناك تعامل مع الاحتلال بطرق شتى، وهو ما ينسف وحدانية الاحتلال، وهناك تمسك بما أنجزه كل منهما على مستوى الحركة وفي هذا نفي لوحدانية القضية الفلسطينية، وما يؤكد مصداقية هذه الفرضية أو هذه الحقيقة أننا بعد أكثر من عشر سنوات من الإنقسام ما زلنا أشبه بسيزيف الأغريقي نوقع إتفاقا تلو الاتفاق للمصالحة ونعود كما كنا بل نعود اكثر ضعفا، واكثر تصلبا في التمسك بحالة الإنقسام. لأن هناك علاقة بين الإنقسام وعامل الوقت وكل يوم يزيد في عمر الإنقسام.
ولو أراد الطرفان إنهاء الإنقسام لتحقق ذلك منذ اليوم الأول. ولذلك فإن السؤال المطروح هو: لماذا عشر سنوات ؟ولماذا تحول الإنقسام لحالة أبدية دائمة؟ ولماذا التعثر وفشل المحاولة؟
اعتقد أن فشل المحاولة مقصود بعكس محاولة سيزيف، والفشل بات هدفا وقرارا، لأن الإنقسام يعتبر أسهل الطرق لتحقيق الأهداف الضيقة والصغيرة لكل من طرفيه.
ولا شك انه قد تكون هناك قوى وعقبات توضع وتحفر في طريق المصالحة، وهذا أمر منطقي ومفهوم ويفترض ان يكون دافعا لإنهاء الإنقسام، فعندما نؤكد والكل يؤكد أن الإنقسام مصلحة إسرائيلية، وان هدف إسرائيل تحويل الإنقسام إلى حالة سياسية قائمة منفصلة لها كينونتها وبنيتها، بالوصول بكل منهما لحالة من التعب السياسي كي يقبلا، بما هو مطروح، ومع ذلك نستمر في مسار الإنقسام فهذا تأكيد أن الكل يريد الإنقسام، وعندما نقول أن الهدف الإستراتيجي على مستوى المنطقة للقوى الإقليمية والدولية هو إعادة تقسيم الخارطة السياسية للمنطقة عبر خيار تقسيم فلسطين وتفكيكها ومع ذلك نستمر في الإنقسام فهذا تأكيد اننا نريد الإنقسام.
وعندما نؤكد ان القوى الإقليمية وحتى الدولية توظف ما تبقى من القضية الفلسطينية لحساباتها القومية ومصالحها العليا، ومع ذلك نصر على ربط قراراتنا بقرار ومصالح هذه الدول والتحالف معها فهذا معناه أيضا التمسك بحالة الإنقسام. عندما نربط قراراتنا وأفعالنا وخياراتنا لتدعيم وتأكيد أن كل طرف على حق والطرف الآخر على خطأ، فهذا أيضا يعني التمسك بحالة الإنقسام، وعندما نخدع أنفسنا ونقول إن الانتخابات هي الحل ونطالب بها ولكن نضع الشرط المسبقة إما القوة او لا انتخابات فهذا يعني أننا نريد الإنقسام.
الإنقسام السياسي لم يعد حالة بسيطة يمكن تفكيك عقدها ، بل تحول لحالة مركبة مزمنة حتى بمقاييس الزمن، وفي علم إدارة الإزمات عندما تتحول أزمة ما لأزمة مركبة مزمنة يصعب التفكير في حلها بل إدارتها، وتشبه بعقدة غورديان التي تحتاج لإستئصال العقدة الرئيسة لتفك كل العقد تلقائيا، وهذا الخيار مستبعد في الحالة الفلسطينية، ولذلك بدأ الحديث عن الحلول الإنسانية، بمعنى فك العقد الإنسانية وترك العقد السياسية لأن الهدف واضح، بل إن حل العقد الإنسانية أو المعالجة الإنسانية وانا أؤيدها، لكن التخوف أن تصبح غاية لتبرير الوسيلة، وبعبارة أخرى أن يكون الهدف منها تعميق حالة الإنقسام ـ وتحولها لحالة سياسية ثابتة دائمة، لها بنيتها ومؤسساتها، وليس فقط عقيدتها السياسية.
هنا تبرز الحلول الأخرى، وأقصد حلول وخيارات معالجة الإنقسام وليس المصالحة، ولذلك فإن الحديث عن المصالحة أصبح غير مجدي ومرهقاً، وبدلا من محاولات سيزيف المتعثرة واللانهائية، وتهربا من تحمل مسؤولية الإنقسام، وحفظا لماء وجه كل منهما يبدأ الحديث، وتبدأ الحلول الأخرى كيف نتعامل مع المصالحة بالإنقسام، وليس الإنقسام بالمصالحة.
والقصد البحث في الحلول الإنسانية، وحلول التهدئة والهدنة مع إسرائيل وتحييد سلاح المقاومة، وحول التفاوض لتسويات سياسية للضفة الغربية، على أساس ان الحل باتت له صورتان: غزة بالحفاظ على فصلها في سياق عام للمصالحة، ولتحقيق ذلك لا بد من الثمن السياسي، المطلوب فقط التهدئة الأمنية الحدودية، حتى السلاح يتحول لهذه الوظيفة، ولا مانع من بقاء بنية الإنقسام قائمة بل تحولها لحالة سياسية معترف بها ، ولها شرعيتها.
ولا مانع ان تتحول غزة لنموذج فلسطيني لكينونة مستقبلية، ولهذا الحصار والحروب وكل مشاكل غزه هدفها الوصول لخيار غزة أولا، وهذا قد يفسر لنا كل الفعاليات والحراكات التي تشهدها غزه حلول إنسانية في سياق امني سياسي. والذي يساعد على ذلك المحددات الجغرافية والسكانية ومحدودية القدرات تحكم من يريد أن يحكم غزة، اما الصورة الثانية لتعميق حالة الإنفصال بدلا من اللهاث والتعب فالتفكير في الربط الإقليمي، وتوسيع دائرة الحقوق الإنسانية وقليل من الحقوق السياسية، والعمل على سلطة أعلى من حكم ذاتي واقل من دولة في الضفة الغربية.
هذه بعض ملامح الحالة السياسية الفلسطينية، ولننسى جميعا القضية الفلسطينية، ولننسى الشعب الفلسطيني، ولم يعد في تفكير صانعي القرار الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة قضية يصعب حلها، ومن هذه الفرضية تنطلق «صفقة القرن» بفرض الحل بالقوة، لأن العالم لم يعد مستعدا أن يعيش للأبد مع القضية الفلسطينية.
وحتى الان نستطيع القول انهم نجحوا في ان يجعلوا القضية الفلسطينية قضية تنظيم وليس قضية دولة وشعب. الفلسطينيون يعاقبون أنفسهم بالإنقسام مقابل مكافأة بقاء فتح في الضفة وحماس في غزة.
drnagishurrab@gmail.co