منال الزعبي - النجاح الإخباري - إليها ترحلُ العيون كلَّ يوم، لكنّها تستفز الروح والجسد الذي يغامر بالزيارة زحفًا ولو تعثَّر، إنَّها مدينة الصلاة، إنَّها قدس الأقداس، مدينة السلام التي لم ترَ السلام قط.
بيننا وبين أقصانا رابط روحي أعمق من فكرة الاحتلال الزائلة، فلا الحواجز ولا الجدران ولا المشقَّة ولا المسافات، ولا الصيام ولا درجات الحرارة، ولا حتى الشهداء الذين تهيم أرواحهم يوميًّا في سماء فلسطين، ولا أبعد من ذلك ولا أدنى، منع الفلسطينين من الزحف للأقصى كالسيل من كلِّ مكان لِرَتق الجرحِ النازفِ في الجَسَد المقدسي.
على الحواجز مشاهد صمتُها ينقل الصورة الكاملة، عن القوة والجبروت والمخرز المدجج الذي يلاطم أكفَّ السلام العارية القادمة لتصافح أقصاها.
عجائزُ تنزعُ أنينَها وتحملُه على خاصرة النكبة، وتدخل رغم أنف المرض والاحتلال، شبّان يتسلقون الجدار الفاصل دون أدنى خوف من بصيرة الرصاص، أطفال جاؤوا لينبضوا في قلب القدس، لم يعاصروا الانتفاضة ولم يذوقوا ويلاتها إلا أنَّهم رضعوا حليب فلسطين فنما فيهم حبُّ الوطن والإيمان بالقضية التي لن تُطمَس.
في الجمعة الأخيرة من رمضان زَحف مئات الألوف من أبناء فلسطين إلى القدس جاؤوا بِرًّا بأقصاهم وصلةً لرحم الأُم الأولى، وليُصلّوا في محراب طهرها، يسجدون على شوك الاحتلال، ويتوضؤون بالدم، جاؤوها بجوف فارغ إلا من حبّها، جوعى للحريّة وعِطاش للشهادة، ليذهب ظمأهم بلثمِ أرضها، وتبتل عروقهم برؤياها.
هذه الزيارات شهادات حيّة على الحق الفلسطيني والارتباط الوثيق الذي يستحق ثمنًا لم يُدفَع بعد، تهديدات الاحتلال و حشوده العسكرية، لم توقف مسيرة القدس الكبرى في قطاع غزة، و لم تفلح في إضعاف المقاومة الشعبية المتصاعدة، ولم تمنع مئات الآلاف من الفلسطينيين من الزحف نحو الأقصى.
شهر كامل مرَّ سريعًا لم تخلُ القدس من حركة المطالبين بحقهم فيها، قصدوها، صلّوا، واعتكفوا، ناموا وقاموا ورتلوا القرآن في جنباتها، ورفعوا أكف الضراعة لرب السماء أن يحمي بيت المقدس وما حوله.
حتى إذا ما جاءت ليلة القدر سيتضاعف العدد كما الأجرُ تجديدًا للعهد، سينتفض الجسد الفلسطيني رُكَّعًا سجودًا، تلك الحشود لوقع نعالها رجفة وأكبر الأثر في قلب محتل جبان.