عبدالله العولقي - النجاح الإخباري - تعتمد دراسة علم المستقبل واستشراف آفاقه على التحليل المستقبلي للحضارة والثقافة الإنسانية عبر مؤشرات علمية متخصصة، وهو محور مفصلي يفرق بين دول الركب الحضاري المتقدم عن قريناتها المتخلفة، ولذا كان حرص ولي عهدنا الأمير محمد بن سلمان بعلوم المستقبل واستشراف آفاقه أولوية قصوى في رؤيته الوطنية من حيث رسم وصناعة الخطى نحو المستقبل المنشود.
في الأكاديميات الغربية ومعاهدها العلمية يبلغ التنافس أشده في إنشاء الأقسام المتخصصة بعلوم المستقبل واستشراف آفاقه Futurology وهو عملية بناء افتراضات مستقبلية بناء على دراسات علمية وحسابات دقيقة تعرف بعناصر المخاطرة. فمثلاً تشير دلائل علم المستقبليات اليوم إلى أن التفوق الحضاري هو العنصر الحاسم في الريادة الإنسانية وسيتجه إلى مجالات الذكاء الاصطناعي حيث سيتفوق في موازناته التمويلية على كثير من الصناعات العملاقة والإنفاقات العسكرية والاقتصادية ، ومن هنا كان اهتمام ولي العهد بهذه التكنولوجيا المستقبلية الحاسمة في عقود الشراكات الضخمة والهائلة خلال جولاته المكوكية بين الولايات الأميركية والدول الأوروبية.
إن التغيير المتسارع اليوم في علوم التقنية والنانو وتدافع الاختراعات والمستكشفات العلمية يعطيان لعلم المستقبل أهميته ومكانته التي تمنحه الجدول الزمني المخصص له بالعمل وبمضمونه ومنهجه العلمي. وتتلخص هذه المستقبليات بدراسة المحتمل والممكن واستشراف آفاق المستقبل وتقديم الحلول لمواجهة الآخطار الممكنة، ولذا يؤكد علماء المستقبل أن المفتاح الأساسي لقضايا المستقبل يكمن في تحديد وتقليص عنصر (اللايقين) لأنه يمثل المخاطرة العلمية، ولعل الشواهد والدلائل تعج في تجارب الأمم والشعوب بين التي غرقت في تمجيد ماضيها وبين التي اقتحمت أسوار مستقبلها عبر العلم والتكنولوجيا.
إن بداية الطريق القويمة لأي إصلاح تنموي مستقبلي للأوطان يكمن في إدارة التغيير الناجحة التي تلغي المنظومة السلبية الكابحة لعوامل النهوض والتقدم، كما شهدناه مثلاً في الإجراءات الحازمة ضد الفساد والمحسوبية والتطرف والانحلال. ومن جهة أخرى فهي تؤسس لثقافة الإيجابية الكامنة في الإبداع والموهبة وترسيخها في المجتمع، وهذا ما نراه اليوم واقعاً ملموساً في المشهد السعودي في رعاية الفنون والمسرح والموسيقى والأوبرا والسينما والآداب والثقافة والفكر.
كما أن ترسيخ ثقافة المستقبليات في عمق الثقافة الوطنية سينتج تحولاً محورياً من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإنتاج وعلى كل الصعد، فعلم المستقبل لا يختص بتوقعات علوم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي فحسب، بل يشمل فنون الأدب المتنوعة. وعلى سبيل المثال نحن في حاجة ماسة إلى تأصيل أدب الخيال العلمي في ثقافتنا الوطنية، فهو محور تكويني في علوم المستقبليات، وقد شهدنا في العقد الأخير ازدهاراً رائعاً بين جيل الشباب في إبداع الرواية والأقصوصة والقصيدة، لكن يعاب على المضمون دورانه في تكرار المغزى الكلاسيكي ذاته، أو بمعنى توطين الفكرة الأجنبية، بينما يكاد ينعدم مخزوننا الكتابي الإبداعي في فن أدب الخيال العلمي.
نقلا عن الحياة اللندنية