نبيل عمرو - النجاح الإخباري - شرعت في كتابة هذه المقالة قبل ساعات قليلة من إلقاء كلمتي أمام الدورة الثالثة والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني، أي في اليوم الثالث من الأيام الأربعة المفترض أن تنجز جدول الأعمال الضخم الذي أعدّ لإظهار أهمية انعقاد هذا المجلس.
لست متفائلاً بتحولات جدية في الوضع الفلسطيني تنتج عن هذه الدورة الإشكالية، فلو جلست في القاعة وأغمضت عينيك، واستمعت إلى ما يقال، فلن تجد فرقاً بين ما قيل في كل المجالس السابقة، وما يقال بعد أكثر من نصف قرن من تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.
لا تغيير حتى في المفردات، ومن المقولات التي لن تقوم للفلسطينيين قائمة إلا إذا تخلوا عنها، مقولة إن مجرد عقد المجلس هو إنجاز عظيم، وهذا يجعل النتائج غير ذات قيمة، خصوصاً أن الجانب الاحتفالي بهذه المقولة طغى حتى على المناقشات المفترض أن تدور حول الشأن الفلسطيني الذي يمر بأصعب حالاته.
عبارة ثانية تبدو لي في سياق تطور الأحداث والمواقف أنها فقدت معناها، بل ومبرر استخدامها وهي كلمة الثوابت، والتباري في الخطب لإثبات الالتزام بها، بينما كل ما يجري على الأرض لا صلة له بهذه المفردة، فانقسام الوطن إلى شطرين يبدو في مرافعات كل شطر أنه للحفاظ على الثوابت، والرهان على الإسناد الأميركي للحق الفلسطيني ثم تحول الأمر إلى عكسه، يفسر في الحالة الأولى والثانية بأنه خدمة والتزاماً بالثوابت، وتجميد المؤسسات الفلسطينية وإلغاء دورها في الحياة والقرار، بما في ذلك إهمال المجلس الوطني لعقود، والتعايش مع غياب المجلس التشريعي المنتخب، والشعار المرفوع في هذه المرحلة بأننا سلطة بلا سلطة، وتهديد العالم بأننا سنسلم مفاتيحها للسيد نتنياهو، فكان الشيء وعكسه هو أيضاً تحت شعار الثوابت ومن أجل الثوابت.
في حياة الفلسطينيين ثابت واحد لم يتغير ولم يتبدل هو الخلود القيادي، أمّا كل شيء آخر فهو عرضة للتبدل، ولعل هذا هو سر المسافة الواسعة التي تفصل بين الطبقة السياسية الفلسطينية التي تقف في الواجهة، وبين الجماهير الذين لو استُطلعت آراؤهم وسئلوا ما هو الموقف من منظمة التحرير لقال تسعون في المائة من المستطلعة آراؤهم عن ماذا تتحدثون.
غير أن الفلسطينيين وتحديداً الطبقة السياسية ويشاطرها العالم كله في الموقف من منظمة التحرير، إنها رغم كل ذلك هي الشرعية المتبقية، والمعترف بها عربياً ودولياً، وهذا هو المبرر الوحيد لي مثلاً لمواصلة اعتناق المنظمة بمن يمسك بحبل يخشى لو أرخى قبضته عنه أن يهوي إلى قاع البئر، ولكي لا ترتخي القبضة أو ينقطع الحبل نتعلق بأمل رؤية بعض التجدد في الخطاب والسلوك والمؤسسة، لذلك يشهد المجلس، وخصوصاً في هذه الدورة صراعاً غير متكافئ بين من يدعون إلى التجدد وتغيير الصيغة الجامدة التي لم تتطور منذ زمن الشقيري، وبث حالة ديمقراطية كانت في الماضي السحيق أفضل مما هي الآن، فهنالك حراس لا تظهر قوتهم إلا حين يقترب أحد من فكرة تغيير الصيغة، فيبنون حول أنفسهم جداراً تحت عنوان الثوابت، بينما هم الثابت الوحيد.
الأقلية التي أنتمي إليها وتطرح بديهيات العمل البرلماني الذي تكرهه القوى النافذة في منظمة التحرير، تواجه اتهاماً جاهزاً بأن من يقترح المساس بصيغة الشقيري التي ينعقد المجلس للحفاظ عليها في قاعة تحمل اسمه، فهم أشبه بطابور خامس لو أُخذ برأيهم لانتهت المنظمة.
الحد الأدنى الذي يسعى إليه المجددون هو الحصول على فرص للمحاولة، وهذا يمكن أن يكون متاحاً وممكناً تحقيق أهدافه إذا ما فتحت الأبواب لأجيال جديدة، كي تدخل دماً جديداً وفكراً جديداً ووسائل جديدة، ليس فقط تحافظ على قضية عادلة للبقاء قيد التداول وإنما تسهم بصورة أفضل في إيجاد حلول.
انزواء منظمة التحرير في مكان قصي عن الملايين الفلسطينية المتكاثرة، هو أخطر ما يهدد المنظمة على صعيد الدور والنفوذ وحتى الوجود، وما يدعوني للحذر وقلة التفاؤل، أن الذين أوصلوا الأمور إلى هذا الوضع هم ذاتهم من يحتكرون القرار والشرعية.