عيسى قراقع - النجاح الإخباري - رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين
مثل الكثير من الأمهات الفلسطينيات، تنتظر ، والانتظار الفلسطيني أصبح حالة صمود تشبه المعجزة ، دائما هناك غد، ودائما هناك أمل، ودائما هناك ما يجعل الفرح الفلسطيني غير المألوف مألوفا، وعند كل أم دعاء خاص، صلاتها مختلفة، نظراتها مختلفة، تقف على الأرض ، الجنة تحت أقدامها والسماء من فوقها مفتوحة على الحياة القادمة والرجاء.
هي أم الأسير الفلسطيني ياسر ربايعة ، سكان العيزرية المحكوم بالمؤبد ويقبع في السجن منذ 17 عاما، جاءها الخبر المزعج والمؤلم بأن ابنها مريض بورم على الكبد وقد نقلوه الى المستشفى وبدأ رحلة علاج. هرعنا في مساء يوم الأسير الفلسطيني الى بيتها ، كان أولادها من حولها وأهل الحارة والأقارب والجيران والصمت والقلق والتوجس والدمع والوجوه العنيدة. صورة ياسر على الحائط الى جانب صورة والده الذي توفي دون وداع أو لقاء.
زمن السجن يطحن آلاف الأسرى القابعين في السجون، فمنهم 48 أسيرا مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاما، تجاوزوا حدود الزمن القادم وصمدوا بشموخ وكبرياء، كبروا بين الحديد وتجددوا جوعا وإرادة وأفشلوا خيبة السجان، انتشرت الأمراض الكثيرة في أجسادهم، تنفسوا باليقين واحتملوا الموت مرات مرات.
أم ياسر ربايعة سلمتني رسالة الى الرئيس أبو مازن، وخاطبتني بخوف ورعب متمنية ان ترى ياسر وتحتضنه.. العمر يمضي يا ابني، وأنا امرأة عجوز ومريضة، هل من نبوءة تعيد اليّ ابني قريبا قبل أن أرحل عن هذه الحياة؟ قالت ذلك وهي تنظر الى الجالسين في البيت وتقرأ الرسالة الموجهة الى الرئيس قائلة أتمنى أن تفرجوا عن ابني قبل ان يتوفاني الله تعالى لأفرح بعودته وأقبله لكثرة اشتياقي اليه.
إن 1800 حالة مرضية صعبة تقبع في سجون الاحتلال، منها ما يزيد عن مائة حالة خطيرة جدا،أسرى مصابين بالسرطان والاورام والشلل والاعاقات والجروح البليغة، يتعرضون لجرائم طبية وإهمال صحي متعمد، معلقون بين الموت والحياة، تتدلى من أجسادهم البرابيش الطبية، أجساد تطفح بالادوية المسكنة، عكازات كثيرة في مستشفى الرملة الاسرائيلي ، غرف ضيقة وآلام واختناق ، لا هواء ولا دواء ولا شفاء.
أسرى عادوا الينا جثثا في أكياس سوداء، قتلوهم هناك بعد ان استفحلت الأمراض في أجسادهم، صار الأطباء جلادين والسجون مكان لزرع الأمراض، يموتون خلف القضبان او يموتون بعد الافراج بقليل، انهم يعدمون الحياة هنا وهناك.
أم ياسر ربايعة تنظر الى الناس في يوم الأسير الفلسطيني، فعاليات وصراخ وغضب وصور وشعارات ونداءات واستغاثات، تنتظر انفتاح المغلق على النهار، تنتظر من يخفف وجعها، وتنتظر من يجعل حنينها لولدها يقرب المسافات لتسمع صوت ياسر في باحة الدار، يعود الى البلد والعائلة حيا ولن يسمعه أحد سواها.
تقول أم ياسر بانها تحيا لأن ابنها لا زال حيا، وأن ابنها ليس في صراع مع الموت والأمراض القاتلة بل هو في صراع مع الحرية، ان إرادته هي التي تقاوم الموت، وفي يوم الأسير تراه ينزل عن الصور ويمشي في شوارع القدس جميلا متألقا يبتسم للعائدين الى الصلاة الجماعية.
لقد سقط 59 شهيدا أسيرا منذ عام 1967 بسبب الإهمال الطبي وعدم تقديم العلاج اللازم لهم، لا يوجد فحوصات دورية وتشخيص دقيق للامراض، مماطلات طويلة في اجراء العمليات الجراحية، اطباء غير مهنيين لا مبالين يعتقدون ان حياة الاسرى رخيصة، يكتشف الاسير بعد زمن ان امراضا سرت في جسمه منذ مدة طويلة، لم تستطع اي لجنة دولية من اجراء تحقيقات حول المعاملة الصحية للاسرى ومراقبة واقع السجون واماكن الاحتجاز ودور الاطباء والمستشفيات.
في مستشفى الرملة الإسرائيلي الذي هو أسوأ من السجن تقبع اخطر الحالات المرضية وعددها 15 أسيرا منهم من بترت أعضاء من أجسادهم ، واغلبهم يتحرك على كراسي المقعدين، ومنهم من يصرخ طوال الليل، يرتجف فتتحرك الشظايا والرصاصات الباقية في عضلات اجسامهم، جروح مفتوحة ووقت بطيء وثقيل يشبه المقصلة.
أم الأسير ياسر ربايعة تخترع الحلم وترى ابنها، يضمها وينام قربها كأن روحه اعتقت من السجن وهامت وحلقت وجاءت الى البيت، وعندما تستيقظ في الصباح تسقيه الشاي بالنعنع، تمده بطاقة الامومة وسحابة دافئة وخفقات من القلب.
الجرائم الطبية في سجون الاحتلال تتصاعد، وهي جرائم حرب وانتهاكات جسيمة تتنافى مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية، يذهب ضحيتها الاسرى ويصبح المرض اداة للقتل، ويصبح الاستهتار بصحة المرضى منهجا وسياسة تحصد الارواح وتدمرالنفوس، فالاسير والموت وحيدان داخل السجن، السجن منفى والمرض زنزانة معزولة بعيدة عن اعين المؤسسات والمراقبين وفقهاء القانون ونشطاء حقوق الانسان.
ام ياسر تعيش كل التوقعات والاحتمالات، امرأة تعصف بها الانباء والاخبار، اليوم نقلوا ياسر الى مستشفى سوروكا الاسرائيلي، وغدا سيجرون له عملية جراحية، وبعد غد سيبدأون بإعطائه العلاج البيولوجي، وعليها ان تتدرب طوال الوقت على الصبر والتأمل ، فهذا هو شهر نيسان الذي يتباهى بالشهداء وبزهر اللوز وبنشيد الحرية وبزغاريد النساء ، ويستمر الهجوم كما قال الشهيد خليل الوزير ابو جهاد اول الرصاص واول الحجارة.