يونس العموري - النجاح الإخباري - تتصدر العناوین من جدید وتحاول ان تنھض بشموخ ، تقف امام البحر لتعلن عن ھویتھا بكل آھاتھا ، وتقول ما یمكن ان یقال في حضرة القتل والتقتیل للغة الضاد بأزقتھا ، جاءت ھذه المرة واستحضرت كل تاریخ من عبر دروبھا ومن انكسر على بواباتھا ، لم تخف موج البحر الھادر المائج الھائج وصاحبت غضبه واربكت كل غزاتھا ، كانت تنتظر عشاقھا المتسللین الیھا لیلا لیحكوا وایاھا حكایا اللیل المنسدلة ستائره بعد النھار العابث بحواريها ، ... اسكندر المقدوني اقتحم البحر ووقف حائرا امام اسئلتھا، وأبت غزة الاستسلام لملك ملوك كسرى القادم لحصار الغزة ، غزة عرفت وتعاملت مع الحصار منذ بدايات التاريخ ، وأتقنت معادلة العيش ومقاومة اتجاهات الريح المعاكسة ، وعرفت كيف تصنع جبروتها فارضة ذاتها على عناوين الوجود.
غزة القادمة عنوة الى هوامش الحياة من خلالها تتسلل حياة الممكن في ظل سقوط الأقنعة عن الجمع ، وتعرف كيفية التعامل مع اشكال القادة فمنهم من قضى نحبه على دروب العودة الممكنة الى خاصرة الإمتداد الطبيعي لجغرافيا الكثبان الرملية ، عاصمة عواصم الفقر والقتل لم تقف على الحياد يوما ، متمردة عصية على الانكسار ، وهي العائدة دوما، غزة ومنذ ما يسمى بفجر التاريخ تتشبث بهويتها الحضارية وان كانت عند أطراف الموت مرمية ، هي العاشقة بامتياز لأيلياء العظيمة وحفظت وصاياها وفككت رموز العشق فيها ، وكان لها بصماتها المنقوشة على جدران البيت العتيق ، غزة المدافعة الشرسة عن عظمة الانتماء للكنعانية الأولى ، والحافظة للمواثيق ، المتجذرة بالغضب والعاشقة للحياة ، غزة الصارخة بوجه جبناء الواقع الذين يرقصون على وجعها تنتفض عائدة الى حيث حاولوا اقتلاعها وسلخها، ارادوا لها الموت البطيء فنهضت وهي الناهضة دوما ومارست حقها الطبيعي بالعودة الى اقاصي الشمال .
كانت الدعوة طبيعية لغزة ان تمارس عودتها وان توقف العبث بأزقتها وإحالتها الى كتلة بشرية وسخة تستجدي العيش وبعضا من فتات الخبز، وبصرف النظر عن الداعي وممن أتقن اللعب بالكرة البائسة ووقف مزمجرا امام الحشد، وممن حاول ان يعبث بالألم وممن يشكك بإرادة القهر، وممن يدعي الانتماء لبحرها وممن يتربع على عرش الأبوة ، والكل شارك ويشارك بفعل الذبح من الوريد للوريد . والدعوة هنا تبلورت من الكل والكل هنا يعني الكل زعماء الطوائف وأمراء اللحظة وانتهازيي الموقف والكاظمين الغيظ ، والعابثين عند اول الصبح ، والعبيد والسادة وتجار المواقف والشرفاء والفقراء والأغنياء والموحدين والملحدين ، وقادة الرأي والاطفال والنساء والجميلات والحانقات والارامل والثكالى والرجال الرجال وملح الأرض والزهر والتين والزيتون ..
كانت الدعوة من الكل بعد ان سئمت غزة كل هذا الليل والتطرف بالقتل والكذب المتقن عليها وحياتها. فقد أدركت غزة الحقيقة ومارست أحقيتها بتلك الحقيقة ومنذ البدايات ،وان الحق لا يُعطى لمن يسكت عنه ، وان على المرء ان يحدث بعض الضجيج حتى يحصل على ما يريد، وغزة تريد وتريد...
تريد حريتها وتريد عيشها بأمن وأمان وتريد كرامتها وترفض ان تصبح مفردة في خطابات المناكفة وتصفية الحسابات …
وكانت مسيرة العودة لجموع جماهيرها، نداء بوجه الجميع وصرخة مرتدة عن جدران قصور الزعامات التي تلعب وتستثمر بمصير غزة من خلال صراع اباطرة مراكز القوى ، والعاملين تحت جنح الليل لتبقى غزة رقما في حسابات الصراع على موائد الكبار في حسبة صناعة ممالك وإقطاعيات، وتعرف غزة كيف من الممكن ان تقلب الطاولة وتتقن خربشة الموازين من جديد ، وهي العالمة بخفايا عواصم التآمر والقرار، لم تكن مسيرة العودة مجردة من سياقها التاريخي ، فممارسة الحق بالعودة الى أنسنة غزة وإحالتها الى مكان للعيش ان كان ذلك ممكنا هو الهدف ، ومن حق فنان النقش بالرمل على شواطىء العزة ان يغادر البحر الى عواصم الابداع ويحتفي بلوحة فنية مع جميلة عند اخر الليل. ومن حقه ان يعود الى حيث اراد العودة ...
غزة تشكلت في وجدان الجمع كضمير مستتر ملعوب فيه مرفوع تارة ومجرور تارات أخرى ، غزة مارست بالأمس حقها بالألم والتعبير عن الوجع ..
تتسلل المشاهد وتقتحم وعينا ونمارس حق التأمل بالمشهد العظيم للاندفاع بالشوق والتوق للانعتاق من وهم الصمود .
غجریة تسللت الى ازقة المدينة ، كانت تتراكض هناك وسط الجموع ، أطلقت العنان لآھاتھا، تبحث عن ھویتھا ، ومخزون مكنوناتھا ، تفتش بین السطور ووسط الكلمات عن معانیھا، تدور في فلكھا المتمرغ بوحل الأرض السمراء ، تسكن القلاع وتتأبط شيئا من التاریخ لتزھو بذات یحاولون سحقھا تحت نعال مغتصبي اللیل الجمیل الزائر لحواري المدینة العتیقة الرابضة على متوسط البحر ، تجيء بكامل رونقھا ماسحة على جباه لوحتھا شمس الفقر والحرمان الحارقة ، وللسمراء المنتظرة عند زبد بحر النسیان تجلس غزة ، وبلحظة تصرخ من شدة الألم وحرقة الشوق لمعاودة ممارسة الحیاة ... فقد سئمت غزة من ھذا الصلف ومن ھذا العجز ومن ھذا اللیل الحالك السواد ومن كل افعال الاغتصاب ، والعاھرات القادمات عند اول الصبح یفضحن عجز الرجال ، الموسیقى حزینة ھذا الصباح ، ونباح الكلمات لم یعد یجدي، وحجارة القلاع اھتزت ، والسفن غادرت الموانىء ، والعجائز لم یعدن یجلسن على بوابات الانتظار، والوحش افلت من عقاله ، وجن جنون عشاقھا، وتصدرت العناوین ... فقد نطقت من جدید غزة بلغة ضادھا ، ... واسمعت بشرھا وحجرھا وكل مجانینھا ... غزة تعلنها مرة أخرى بالعشق ستقاوم قهرها وتجويعها وهي رسائلها بكل الاتجاهات ، لعاصمة يهوذا وللناطقين بالعبرية ، ولعاصمة الصدفة هنا باللسان العربي المتسلل الى التاريخ المشوه والمزور، والى اورسالم المتألمة المُغتصبة، وللعواصم العدنانية في البيداء العاربة المستعربة .