عيسى قراقع - النجاح الإخباري - رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين
لأننا شعب "زائد" على هذه اليابسة، "لا نصّ لنا ولا تاريخ ولا جذور ولا صلة قرابة بالأرض والنبات والجماد والثقافة"، آثار الذبح والطمس والتهويد والتطهير والاقتلاع لم تعد تلقى اهتماما لدى العالم المتحضر المتمدن والديمقراطي، فالجرافة الاسرائيلية مستمرة في جرف حاضرنا ومستقبلنا وماضينا، وعقلية الفاشيين الجدد المتربعين على السلطة في اسرائيل تقطع جسد الشعب والهوية الفلسطينية استيطانا وعدوانا وقتلا واعتقالا معتقدة انها لم تترك اثرا لدمنا في هذا الشارع وفي تلك الغرفة، ومعتقدة ان لا علاقة بين الفلسطينيين وبين الفجر والصلاة، وأنه لا يوجد خلف القضبان آلاف الاسرى الذين احتضنوا الحياة الغائبة بتهريب النطف التي صارت بشرا تنطق بأسماء الغائبين الرباعية ميلادا وكوشانا وهوية وبكل الكلام عن الغد الآتي.
فراس "ليس ابني"، هكذا وبعد 24 عاما داخل سجون الاحتلال، يكتشف الاسير محمد نبيل العرقان ابن محافظة الخليل ان ابنه فراس ليس له صلة به اطلاقا، شطبه السجانون والجلادون والمحققون، وغيروا الملامح والنظرات والتأملات ونبضات القلب والجينات، وأعلنوا ان فراس ممنوع من زيارة والده لأنه لا صلة قرابة به، مزقوا تصريح الزيارة وطردوه من كل الجهات ومن غرفة الزيارة.
كان عمر فراس 6 سنوات عندما اعتقل والده، وعلى مدار 18 عاما يحاول الولد ان يرى والده ، وفي كل مرة يقولون له ان لا صلة قرابة بالاسير، وعندما يبرز تاريخ ميلاده ، ومكان ولادته، اسم أمه وجده وجد جدّه، ويعدد لهم اسماء الاشجار والحارات والنساء والشهداء، والانبياء والاصدقاء، اصناف الاشجار البرية والدوالي والطيور والفراشات، عدد الينابيع في الصخور ، يزداد الاسرائيليون تعنتا وشراسة ويعتبرون ان هذا الولد يحاول ان يرتب فوضى الذاكرة الفلسطينية التي بعثرتها الحرب وأطاحت بالمكان.
يعود فراس الى دفاتره وقصائده ليقرأها لوالده خلال الزيارة، يتمنى ان يقول له بابا، ان يرى وجهه كاملا كاملا بلا ظلال بعيدة من خلف ذلك الزجاج ، ان يأخذ رأيه في رسوماته الجميلة وألوان الازرق التي تملأ لوحاته الصغيرة، ان يسمع صوته ليشعر بالطمأنينة ويملأ وعي النقصان دون ان يلتفت الى الوراء ، ويتمنى ان لا يكون هناك مسافة بين لقاء طويل ووداع صغير وأسلاك مدببة في السماء.
لا صلة قرابة بين الأسير محمد نبيل العرقان وابنه فراس، لا زيارة ، الوحوش في الطريق، مستوطنو التلال وعربداتهم، القناصون يقتلون الفتى المعاق الاصم والابكم محمد الجعبري، القناصون يعدمون المعاق المبتور القدمين ابراهيم ابو ثريا، الجنود يعتقلون المصاب محمد التميمي، الصلاة في الحرم الابراهيمي مسيجة بالموت والحواجز والاهانات اليومية، غرف التوقيف ممتلئة بالاطفال المعذبين ، مزقوا ملابسهم وكتب المدرسة.
لا صلة قرابة بين الاسير محمد نبيل العرقان وابنه فراس، الزمن يشيخ في السجون، الذكريات تجف، الاجساد تذوب، الحديد يمنع الصلة بين الافكار والضباب والصور والرؤيا، وها هو المتطرف الاسرائيلي ارون حزان يقتحم حافلات عائلات الاسرى ويهددهم ويشتمهم ويرفع مسدسه في وجههم ويقول لهم لن تصلوا الى ابنائكم في السجون، وها هم يشرعون قوانين اعدام الاسرى ومنع زياراتهم ورفع الاحكام بحقهم حتى تصل الى حافة القبر والآخرة.
لا صلة قرابة بين الاسير محمد نبيل العرقان وابنه فراس ، وعلى مدار 18 عاما يحاول المحتلون قطع هذه الصلة بين اللحم والدم، بين جسد الارض وأبنائها وحرمانهم من مشهد الشجرة والبحر وما تحركه الحرية في المخيلة .
لا صلة قرابة بين الاسير محمد نبيل العرقان وابنه فراس، لا إذن له بالدخول ، ممنوع ان يشرح لهم علاقته بأبيه وبالتاريخ الموزع بين النكبة والمنافي ويبرهن بالوثائق الصلة بين جغرافيا الخليل وأبيه منذ ان وصل ابو الانبياء ابراهيم الى هذه البلاد ، وتناسل السلالات والحكايات قبل ان يصل العابرون الدخلاء بأساطيرهم المسلحة الى ما يسمى (ارض الميعاد).
لا صلة قرابة بين الاسير محمد نبيل العرقان وابنه فراس، يريدون ان يبقى الماضي بعيدا، يرفضون ان تولد الفكرة من الغياب، لا صلة قرابة بين شجر الصبار والتراب، بين الماء والاغاني قرب الينابيع ورقصة النساء، لا صلة قرابة بين العجين وسنابل القمح والضوء والحنين في رواية المساء، لهذا أمعنوا في المذبحة ، لهذا حاصروا القدس والمسجد والكنيسة وصلبوا علنا كل الانبياء.
لا صلة قرابة بين الاسير محمد نبيل العرقان وابنه فراس، وبعد 18 عاما يقول لأبيه: خذ بيدي، علمني ايقاع البحر كي نعبر بين الليل وبين الفجر معا ، في الخليل ينتظرك الناس وأمي وعباءة جدي والجيران وعائلات الشهداء.
فراس يكتب لوالده ما اعلنه ذات يوم محمود درويش في نبوءته:
كل بعيد يقترب..
وكل مغلق ينفتح..
اذا لم تخطىء في كتابة كلمة نهر..
فسيجري النهر في دفترك.