عيسى قراقع - النجاح الإخباري - لو ملكنا ناصية الرواية الواقعية لنفجر الكتاب وبكت الاوراق وصدم المؤلفون والقراء، هي روايات الفلسطينيين الأعلى من المعجزات والأقرب الى النبوءات والمفاجآت والبطولات، حكايات من دم واحساس وأنفاس ساخنة، لا التأويل حولها الى الخيال، ولا الخيال يماهيها بالواقع، فتبقى دهشة الثقافة والمثقفين عالقة على حبل السؤال.
الاسم الرباعي زياد صدقي عبد الغني جيوسي ، سكان مدينة طولكرم المحتلة في فلسطين، اعتقل يوم 29/11/2001 وهو يحاول ان يصدّ الاجتياحات والمجنزرات والمداهمات والطائرات، حكم عليه بالسجن 16 عاما قضاها يوما يوما وليلة ليلة، تنقل من سجن الى سجن ومن برش الى برش ومن عتمة الى عتمة، لم تشف ذاكرته طوال هذه السنين مما كان: مذبحة مخيم جنين، حصار كنيسة المهد، حصار الرئيس ابو عمار، جثث على الارصفة وفي الشوارع.
اعتقل زياد وكان عريسا معطرا بالحب والرصاص، على كتفيه كوفية ووردة واغنية جميلة ، في مكتبته ديواني الشاعرين ابو سلمى وابو فودة، وتحت مخدته مسدس وحلم مبلول بالندى وعسل الفجر، وكانت الشمس قد ايقظت النافذة وقرعت الباب، النوم خرج حافيا الى المجهول، اعتقلوه بعد شهرين من زواجه وكبلوه تاركا عروسته الحامل تحاول ان تنهض من خواطرها السوداء في تلك العتمة الصلبة.
رزق زياد خلال وجوده بطفله الوحيد طارق وبعد 7 شهور من اعتقاله ، لم يسمح له بزيارة طفله الا مرة واحدة طوال 16 عاما من الاعتقال، وقد أعدّ زياد لابنه الكثير الكثير من الكلام والحب، يخرج الى الزيارة فلا يجد طارق، ينتظر الزيارة الأخرى، ولم يأت طارق، لأن سلطات الاحتلال تعتبر رؤية الأسير لولده ولو لمرة واحدة ولمدة 45 دقيقة خطرا وجوديا على دولة اسرائيل، عاد طارق الى غرفته بالحلوى والشكولاته التي كان ينوي إعطاءها لابنه، ظلت الحلوى على مدار كل السنوات في يد زياد، ذابت الفرحة وذابت الشكولاتة، وتوقف حليب القلب وانفطم الزفاف.
لم يأت الطفل للزيارة، تفرق الأسرى الذين احتفلوا بميلاده واستعدوا لقدومه، شاهدوا صوره وعلقوها على حيطان غرف السجن، وكان زياد يحكي مع الصورة طوال الليل، يقرأ له الشعر وقصص الاطفال ، يعلمه المشي ولفظ الكلمات وتسلق الجدران، يكتب له الرسائل المكتوبة والشفهية، يحملها من ريح الى ريح الى مواعيد لم تكتمل ، متأكدا ان الحلم سوف يجد الحالمين ويطرد اشباح الليل.
كبر طارق في السجن مع والده، كبرت الصورة، تغيرت ملامح الصورة سنة وراء سنة، وطارق لم يأت الى الزيارة، تكسّر الحنين آلاف المرات في الزنزانة، فرح غائب، وجع بلا رائحة يؤلم القلب عندما لم يفتح الباب ليسترجع الذي فقده : الحرية والعائلة وعافية الروح.
توفي طارق بحادث سير في عمان وهو بعمر التاسعة وتم دفنه هناك، جاء الخبر الى السجن، كل شيء يرتجف، صور طارق تطايرت عن الجدران وحديد الابراش، فجع في المفاصل والحيطان، جرح بليغ في صدر والده زياد ، صمت مخيف يبشر بزلزال انساني، كلام لا يبوح في الوداع الذي لم يكن له لقاء، دموع تذرفها رائحة الفلفل والفجع، ريش يتطاير في الهواء، سقط الطير وانحبس الفضاء، لم يترك الموت لزياد شيئا، لم يتمكن الطفل طارق من الانتظار 16 عاما، خطفه الموت المباغت، ولم يتمكن من زيارة والده في دولة اسرائيل المدججة بالممنوعات.
لم يشهد مولده، ولم يشارك في جنازته، لم يأخذه الى حديقة مليئة بالفراشات الملونة ورذاذ الضوء والالعاب الكثيرة، لم يأخذه في رحلة الى البحر والشمس ليسمع النشيد الواعد بالامل.
لم يشهد مولده ولم يشارك في جنازته، انكمش في زاوية غرفة السجن وحيدا وحيدا، لا يعرف اين يقف في هذا الزمن الاحتلالي المهيمن على الماضي والحاضر، بدأ يخاف من الغد الملتبس ، هناك من انتزع ضلعا من جسده، هناك من ذبحه من الوريد الى الوريد ولم يتوقف نزيف الدم.
لم يشهد مولده ولم يشارك في جنازته، كبر طارق وجرى في شوراع طولكرم حاملا صورة ابيه، رأيناه في اعتصام الأهالي في مقر الصليب الأحمر بالمدينة، رأيناه يصرخ وينادي على أبيه ، فينهال السجانون ضربا مبرحا على الأسرى في عمليات قمع يومية، تتدفق النطف، تحبل السماء.
لم يشهد مولده ولم يشارك في جنازته، وقد تحرر زياد، لا قبر له هنا في المدينة، وممنوع ان يسافر الى القبر في عمان، حمل ملابسه وكتبه وحقيبة مدرسته ومشى في جنازة مع ظله في الساحات ، حوله أصدقاء إبنه يحتفلون بعيد ميلاده ويقرأون الوصية.
لم يشهد مولده ولم يشارك في جنازته ، كم من أسير فقد اولاده وعائلته ودقوا أوجاعه وأحزانه بمسامير على تلك الجدران؟ كم من لوحات علقت واختفت في طيات النسيان؟ ما هذا الشعب الذي يسافر الى السجون ويعود من السجون؟ ويكون جاهزا دائما لرصد المناخ المناسب لرشق الحجر حتى تنتقل الدولة من النظرية الى الملموس وينهض القتلى من الذاكرة ، لا يلتفتون الى الوراء.
لم يشهد مولده ولم يشارك في جنازته، شهداء كثيرون اعتقلهم الموت ودفنوا في مقابر الارقام الاسرائيلية، غادروا البيت ولم يعودوا ، اعدموهم وجمدوهم في الثلاجات ، سرقوا اعضائهم وتاجروا بها، امهات ينتظرن عودة الشهداء، والنبوءة تقول سيعودوا، قلب الام لا يكذب، بدونهم الصلاة ناقصة، فلسطين ناقصة، سنرى شمسنا تشرق من قدسنا لا من جهة تل ابيب.
لم يشهد مولده ولم يشارك في جنازته، هي حكايتنا من حضور الى غياب الى حضور، من موت الى حياة الى هيجان الربيع، نبتة تقف على ساقها، نبع ماء يسيل بهدوء تحت الجذور، يولد الصباح عندما نغادر المقبرة الى القدس.
لم يشهد مولده ولم يشارك في جنازته، قرأ زياد على الحاضرين والغائبين مرثية الشاعر سيمح القاسم:
لا تقولوا قضوا ومضوا
انهم بيننا، معنا، ولنا، ههنا
في تضاريسنا وقواميسنا خالدون
ولدى ربهم يرزقون
ولدى شعبهم يرزقون
انهم خالدون