سلطان الحطاب - النجاح الإخباري - الرئيس عباس يحمل صخرة “سيزيف” ليضعها أمام مجلس الأمن في أعلى قمة .. يصل بها دون أن ييأس بعد محاولات عديدة بدأها وما زال يصر على أن يستمر .. وفي أطول خطاب غير تقليدي أمام مجلس الأمن لم يعتد أطرافه على سماع طوله يقرأ مزامير السلام ويعزفها بدقة وقد أعد درسه وأحسن إعداده.. وقدم خطة سلام متكاملة من خارج الصندوق الذي صنعته الولايات المتحدة لمفاوضات لا معنى لها حين كانت تجهض كل محاولة تفاوضية بانحيازها الأعمى.
الروشيتة التي كتبها الرئيس عباس من خلال كلمته الى مجلس الأمن كتبها بخط واضح وأشار الى دواء موصوف وهو عقد مؤتمر دولي في أقرب وقت ومع منتصف هذا العام 2018 لما تقتضيه الحالة من اسراع ، وقد جاء بتشخيص دقيق حين وصف الحالة وضرورة أن تكون طريق السلام التي أغلقتها اسرائيل سالكة، وهو يستعين بالمجتمع الدولي لفتحها وبأقوى تعبيرات هذا المجتمع الدولي وهو مجلس الأمن، بعد أن أعطته الجمعية العامة للأمم المتحدة 138 صوتا لصالح فتح هذه الطريق وانهاء أطول احتلال ووصول الشعب الفلسطيني الى دولته المستقلة التي يقرر فيها مصيره متمتعا بحقوقه المنصوص عليها في قرارات الشرعية الدولية ، ولم يغفل الرئيس وهو يكتب ابرز اشكال الدواء لمعالجة القضايا العالقة والتي ما زالت اسرائيل تقفز عنها وهي قضية القدس التي أراد الرئيس ترامب ازاحتها عن الطاولة وجعلها عاصمة لاسرائيل ونقل السفارة الامريكية اليها. وقضية اللاجئين والحدود والمياه والاستيطان وكل الملفات التي اغلقت اسرائيل بها طريق السلام وراحت تفعل احتلالها بمزيد من الاجراءات احادية الطرف.
أليست اسرائيل مخلوقا عديم النسب حين تنكر هي نفسها أبويها الذين انجباها وهما قرار 181 وقرار 194 اذ لولاهما ما كانت، وبدون انفاذهما فلا شهادة ميلاد لها وتبقى عاقة.. وهي تريد أيضا أن تكون فوق القانون الدولي وأن تواصل احتلالها بإجراءات تستهدف الأمن والاستقرار والسلام الدوليين . وما زال الرئيس عباس يقرأ مزاميره في معبد العالم الأول وما زال يبحث عن آذان صاغية وعن إرادة متجددة تنتصر لموقفه الواضح والداعي للسلام.
وما زال يجسد موقف غاندي ويسعى به ويجرم استعمال السلاح غير التقليدي والتقليدي ويصف مخاطره وظواهر استعماله وخطره على الانسان والتنمية في لغة تستدرج التصفيق والرضى لكنها تريد مواقف وانحياز واضح ضد العدوان.
خطاب الرئيس أبو مازن أمام مجلس الأمن كان الأوضح والأقوى والأكثر جرأة في التشخيص .. ولم يترك مجالا للتساؤل فقد طرح اسئلة واختار اجابات وعرض المشكلة وقدم حلولا .. ولكن هل نادى أحياء؟ هو يؤكد أنه ينادي على أحياء في مجلس الأمن .. وهو يعلم أنه ظل ينادي من داخل الخزان كما فعل غسان كنفاني في روايته “رجال تحت الشمس” ومن خارج الخزان حين اتيح له أن يقف أمام مجلس الأمن ليعرب الجملة الفلسطينية وينقض الرواية الاسرائيلية عن السلام ويحملها المسؤولية.
لم يذهب الرئيس عباس ليقص قصة شعبه التراجيدية عن النكبة والاحتلال والمعاناة ويقول “وكفى الله المؤمنين” .. بل أنه قدم رواية السلام الحقيقية في مشروع واضح ومتماسك أعلن عن نقاطه ولم يتجنب اعراضه حين تحدث عن حل متفق لقضية اللاجئين وعن تبادل للاراضي في عملية الانسحاب..
قدم مشروعه الذي دعا أن تنهض به شراكة دولية واسعة لتكون على غرار مؤتمر باريس ودعا لانخراط دول مجلس الأمن فيه وكذلك الرباعية الدولية والقوى المقررة والاطراف المعنية – اسرائيل وفلسطين والى كسر احتكار الولايات المتحدة الامريكية التي ظهر انحيازها ” وطلعت رائحته” واستوجب فضحه والبحث عن بدائل له..
لقد حدد الرئيس ابو مازن شكل المؤتمر الدولي القادم وبين الغاية منه واستخلص النتائج وحصرها حتى لا يظل المجتمع الدولي ينتظر “الخض في الماء” ويلف في حلقة مفرغة.
التصفيق كان لغاندي فلسطين ولمانديلا القضية الفلسطينية التي طال زمن غياب حلها بسبب تطرف دولة الاحتلال وشراهة عدوانها وانطلاء ادعاءاتها على المجتمع الدولي حين كانت الصورة الفلسطينية هي ما تقدمها اسرائيل او تصنعها ولكن هذا الزمن تغيرت فيه معالم كثيرة فقد فضحت القيادة الفلسطينية القائمة بنهجها الواضح وانحيازها للسلام ومراهنتها على المجتمع الدولي كل صور الزيف الاسرائيلية وقدمت القيادة الفلسطينية بديلا لها ووضعت الخيارات أمام المجتمع الدولي لينصرها على هذا الباطل.
لقد استثمر الرئيس عباس رصيد الشعب الفلسطيني الكفاحي على مدى أكثر من قرن من الزمان ليؤكد على هوية هذا الشعب المعتدى عليه والمحب للسلام والاستقرار والتنمية مستثمرا شجاعة هذا الشعب وتمسكه بنبذ العنف وحل الدولتين وتحقيق الاستقرار وبعث الأمل في النفوس .
لقد قدم الرئيس عباس ورقة الاعتماد للمجتمع الدولي ممثلا في مجلس الأمن لقبول فلسطين سفيرا للسلام ودولة كاملة العضوية لا ينقصها شيء لتكون كذلك وقد تأهلت تماما بالموقف والممارسة والحق الطبيعي وقرارات الشرعية الدولية.
ما زال الرئيس عباس الذي لا يكل ولا يمل مدفوعا بارادة شعبه الذي يمثل رمزه عهد التميمي وغيرها من اطفال وابطال فلسطين يقدم جرد حساب للمجتمع الدولي فيه رهان واصرار على اعادة زرع بذور السلام رغم ملوحة محتوى الاحتلال وارهابية مناخاته واجراءاته واحترافه للاقتلاع لكل المحاولات.
الانسداد الشديد في عملية السلام التي قامت بها دولة الاحتلال لم ترهب الرئيس ابو مازن ولم تعجله ليستنكف عن المحاولة .. بل جعلته أكثر اصرارا طالما أن العالم ما زال يقرأ لغته ويصفق لها وهي اللغة التي تحرج الاحتلال والتي كسبت العضوية في (105) منظمة دولية منبثقة عن الامم المتحدة وحصدت تأييد (138) دولة.
واذا كانت اسرائيل قد نجحت في ادارة الظهر لمئات النتائج من التصويت في الامم المتحدة والجمعية العامة (107) مرة ولعشرات عديدة في مجلس الأمن (57) مرة وأدارت ظهرها لقرارات الشرعية الدولية حتى الان فإنها لن تقوى على الاستمرار أمام المحاولات الفلسطينية الجادة في إعادة انتاج موقف دولي مختلف سوف يجعل فلسطين في عضوية كاملة وسوف يكشف بشاعة احتلالها ويعمل على التعامل معها كما تعامل مع نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا..
الرئيس عباس كان واضحا وهو يعمل على ملاحقة “العيار الى باب الدار ” بقوله: ” أنه مستعد أن يمشي على الاقدام الى آخر الدنيا” في سبيل الانتصار لحق شعبه ولكنه غير مستعد للتراجع انشا واحدا لتقديم أي تنازلات من ثوابت حقوق شعبه..
يبسط الرئيس قضية شعبه ويُبسّطها ويجد لها الحل فيما قدم وهو يبلغ الدعوة للسلام كما بلغ الانبياء دعاواهم ليتخلص من الشعور بالاثم في أنه لم يقل ولم يعمل ويسأل أين يذهب بعد هذا المشوار الطويل في عتمة الاحتلال.. لقد وصل “سيزيف” أعلى الجبل فهل تقبل الآلهة محاولاته ليرتاح وما رأي هذه القيادة العالمية حتى الآن؟ إنه سؤال الرئيس الذي ما زال يبحث عن إجابة..