عبير بشير - النجاح الإخباري - يتملك كبار المخططين الإستراتيجيين، وأباطرة إدارة الأزمات في العالم،الذهول وهم ينظرون إلى المسرحية السورية الدرامية والدموية المستمرة منذ عدة سنوات،وكيف استطاعت تلك الجحافل العسكرية الدولية المنخرطة في الحرب السورية إدارة الصراع فيما بينها بذكاء ومهارة وخرجت سالمة وغانمة دون تصادم حتى الآن،وكيف استطاعت كل تلك القوى الدولية أن تتقاتل وتتصارع في الملعب السوري بكل لباقة ولياقة وكياسة،وكيف تمكنوا من رسم خطوط التماس والنفوذ عل جثث السوريين ودمائهم !!
غير أن الأسابيع القليلة الماضية، شهدت تصعيداً كبيراً في الصراع بين القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراع المحتدم في سورية، وهزا عنيفا لقواعد الاشتباك المتعارف عليها منذ سنوات.فقد كشفت التطورات الميدانية الأخيرة على الساحة السورية،انقلابا على التفاهمات بين اللاعبين الكبار والصغار في الأزمة السورية،ورفضاً صريحاً جرى ترجمته ميدانيا،للتوازن القائم ومحاولات فعلية لتعديله،فالهجوم التركي على عفرين،والإيراني على إدلب، والإيراني الروسي في دير الزور،والقصف الوحشي على الغوطة الشرقية،ليست إلا تجليات لهذا الرفض.
وتتهم روسيا الولايات المتحدة باللعب بالنار السورية،وذلك عبر تقويض وحدة الأراضي السورية من خلال إقامة كيان كردي على جزء كبير من الأراضي السورية في الضفة الشرقية لنهر الفرات وحتى الحدود العراقية،وفق ما صرح به وزير الخارجية سيرغي لافروف في منتدى فالداي. كما تحمل موسكو واشنطن ضمنيا،إفشال مؤتمر سوتشي، إن بإصرار واشنطن على مسار جنيف وطرحها رؤيتها الخاصة للحل في سورية -حديث وزير الخارجية ريكس تيلرسون في جامعة ستانفورد-،أو بالعمل على إحياء العملية السياسية في جنيف وتقديم مقترح بهذا الخصوص إلى المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا أطلق عليه وصفة – اللاورقة- أي مقترحاً غير رسمي.
وتتمحور – ورقة الحل- حول تعزيز التدخل السياسي والدبلوماسي والعسكري الأميركي في الصراع السوري، وإعادة هيكلة للنظام الروسي،عبر صياغة دستور يقلص صلاحيات الرئيس، ويفصل بين السلطات، وتداول السلطة وإعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية... ونتيجة لكل ذلك حركت موسكو بمشاركة ميليشيا رديفة،قوة من فرقة فاغنر وهي قوات روسية غير نظامية– مرتزقة - أحضرتها إلى سورية للقتال إلى جانب النظام،مقابل حصة من النفط والغاز،لمهاجمة معمل غاز كونيكو الذي يقع تحت الوصاية الأميركية في محافظة دير الزور،لكنها تلقت رداً صارماً وقاسياً من القوات الأميركية التي قصفت قافلة المرتزقة الروس وقتلت منهم مائة مسلح.فيما اتهمت الإدارة الأميركية الجهة التي تقف خلف هجوم دير الزور الفاشل – روسيا- باللعب بالنار.
ثم أن احتدام الصراع العسكري جاء بعد احتدام الأجندات السياسية لحل الصراع السوري،فمقابل مؤتمر سوتشي الروسي،أعلنت الولايات المتحدة إستراتيجيتها للحل السوري،بما يعني أن التوكيل الروسي انتهى.
ولكن ما الذي حصل حتى تعثرت تلك العملية المضبوطة – تنظيم الصراع على الملعب السوري -،وبدأت التحديات والتهديدات تنهال من جميع جوانبها، وبدا أن الجميع يغادرون مربع الحذر!، وخصوصا بأن معركة الغوطة تؤشر إلى بداية حرب واسعة،وانهيار قواعد اللعبة التي وضعها القيصر بوتين،وإلى انتقال الأزمة السورية إلى مرحلة جديدة لا تقل قسوة عن مثيلاتها . ورغم تبني مجلس الأمن قرارا يطالب بوقف فوري للأعمال القتالية في الغوطة وهدنة لمدة ثلاثين يوم ، بعد القصف المدفعي الوحشي للنظام السوري للغوطة ، والذي تم بغطاء جوي ناري روسي ، مما أدى إلى وقوع مجازر مروعة في صفوف المدنيين السوريين .إلا أن المتابعين يشككون بتوقف القتال على جبهة الغوطة ، وخصوصا أن النظام وروسيا وضعا ثقلهما من أجل تأمين حزام العاصمة وخاصة الخاصرة الشرقية ،والقضاء على آخر قلاع فصائل المعارضة في محيط دمشق، وإخراج فيلق الرحمن وجبهة النصرة من المنطقة ودخول قوات النظام السوري إلى مناطق طوق دمشق في زملكا وعربين وكفر بطنا .
ومنذ إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ، أنه لا يستبعد تكرار سيناريو حلب في الغوطة الشرقية، اشتعلت الأوضاع في الغوطة بشكل متصاعد. ورغم أن الاستعدادات لمواجهات واسعة في الغوطة بدأت منذ نهاية العام الماضي، لكن عبارة الوزير الروسي بدت كأنها منحت الغطاء اللازم لدخول مرحلة الحسم النهائي لها. بعد ذلك ترددت العبارة أكثر مرة من جانب مسؤوليين في النظام السوري . كما وفرت موسكو عبر مناقشات مجلس الأمن وفي تعليقات وزارتي الدفاع والخارجية على تطورات الوضع في الغوطة الشرقية،المبررات اللازمة للنظام من أجل المضي في عمليته العسكرية حتى النهاية .
ويؤكد خبراء روس على علاقة بالمستويين العسكري والسياسي، أن موضوع -حسم ملف الغوطة كان ضرورة مؤجلة -،في انتظار نضوج الظروف، والتوقيت المناسب لإطلاق مثل هذه العملية الواسعة ،التي تبدأ من الغوطة الشرقية، وتهدف إلى تطهير محيط العاصمة دمشق من من جيوب المعرضة السورية المسلحة، قبل الانتقال إلى مناطق أخرى، لكن يعود البدء بهذه العملية ، وتوفير موسكو غطاء لها ، والتشدد الروسي في مجلس الأمن قبيل إستصدار قرار أممي يطالب بموقف نار فوري في الغوطة، إلى الإخفاقات التي واجهت موسكو في إدارة العملية السياسية في سورية وعدم نجاحها في ترجمة الإنجازات العسكرية التي حققتها في سورية ، إلى إنجازات سياسية ،وفشل كرنفال سوتشي ، وانطلق الموقف الروسي من حاجة النظام إلى إحكام سيطرته على الجيوب المحيطة بدمشق خصوصاً الغوطة التي تشكل نقطة انطلاق لهجمات مدفعية على أحياء العاصمة القريبة ، ثم إستكمال تطهير بعض الجيوب القريبة من دمشق مثل اليرموك حيث تنشط مجموعات لداعش والنصرة قبل الانتقال إلى معركة واسعة النطاق في إدلب ومحيطها . ولعبت العودة الأميركية القوية إلى الملعب السوري ومحاولة التشويش على الوجود الروسي في سورية دورا كبيرا في تسريع البدء في معركة الغوطة، فقد تولدت قناعة لدى القيادة الروسية أن واشنطن تعكف على تعقيد الحل الروسي وضرب حضورها الدولي ،بدءاً بنفي النظرية الروسية حول «تحقيق الانتصار» ومروراً بتحريض المعارضة السورية على مقاطعة سوتشي، وتسليح واشنطن لقوات سورية الديمقراطية ،واستهداف قاعدة حميم بالطائرات المسيرة،وقصفها للمرتزقة الروس ، وموافقتها على بيع أسلحة متطورة لأوكرانيا.
ويعتبر مارتن شولوف المتخصص في تغطية شؤون الشرق الأوسط في صحيفة الغارديان،أن السيطرة على الغوطة وتنظيف محيط دمشق من المعارضة المسلحة هي حجر الزاوية بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظام الأسد للسيطرة على العاصمة دمشق . ويقارن شولوف بين – خطاب النصر – الذي ألقاه بوتين في قاعدة حميم ، بخطاب جورج بوش الذي أعلن فيه الانتصار في الحرب على العراق عام ألفين وثلاثة من على متن حاملة الطائرات الأميركية أبراهام لنكولن ،ويعتبر شولوف ان كلا التصريحين كان متسرعا ويسعى لترسيخ فكرة القوة العالمية الكبرى وقدرة سلاحها على حسم المعارك سريعا ،لكن بوتين بدلا من الوصول لهدفه،غرق في المستنقع السوري أكثر فأكثر.