غيداء نجار - النجاح الإخباري - كي يروا أقرباءهم، عليهم بالمرور بعدة محطات سلفاً وكأنَّه اختبار لصدق مشاعرهم وأشواقهم، يستيقظون منذ ساعات الصباح ليبدأ يومهم بطابور قطع التذاكر من قبل موظفي الصليب الأحمر، ومن ثمَّ ركوب الباصات المخصصة لنقل أهالي الأسرى، ربع ساعة أو أكثر قليلاً يمر على انطلاق الباص ليقول السائق "تفضلوا.. الله معكم".
تصل معبر "الطيبة" وكل ما يقع نظرك عليه هناك سياج وقضبان حديدة ملتفة حول نفسها، لم أفهم ما أهميتها أو فائدتها للاحتلال الإسرائيلي سوى أنها سياسة متَّبعة لإرهاق الأهالي، أبواب مدولبة تمر من خلالها كل خمس خطوات، حتى تصل للأبواب التي ستنطلق منها للتفتيش الأولي، وهناك تقف على قدميك تنتطر شفقة الجنود الصهاينة ما يقارب الساعة أو أكثر وذلك حسب مزاج الجنود المناوبين.
وما إن تنير الإشارة الخضراء معلنة السماح بمرور أول باب مدولب تدخل بماكينة تفتيش بالأشعة، وهم يحددون لك كيفية الوقوف "أبعد قدميك وارفع يديك"، وقد يطالبوك بخلع ملابسك إذا أثرت قلقهم أو حسب مزاجهم، وقبل ذلك كله يطلب منك ان تضع أي شيء تحمله معك بماكينة تفتيش الممتلكات.
وإذا تم كل ذلك بيسر، تتجه إلى النقطة التالي وهي الوقوف في طابور ليقدم كل شخص هويته وتصريحه والتذكرة، ويبدأ الجندي المناوب بالتدقيق بين ثلاثتهم والنظر عليك لمعرفة إن كنت نفسك من هو في لصورة، وإذا حالفك الحظ بعد كل ذلك التدقيق والبحث في سجل حياتك من خلال جهاز الكمبيوتر تنفتح لك البوابة لتنجو من ذاك المعبر "الشبح"، أو تعود أدراجك بخبية أمل وتحطم سعادتك برؤية من تحب.
ومن ثمَّ مجدّدًا الركوب في الباصات الإسرائيلية التي ستحمل الأهالي بكل ما يحملونه في قلوبهم من شوق وشغف وحب لأبنائهم وأقاربهم حيث يقبعون، حماسهم لرؤية من هم أعزاء على قلوبهم تجعلهم لا يشعرون بـ "الساعة ونصف" التي يحتاجها الباص للوصول حيث المكان المقصود، ومنهم من تغفو عيناه من شدة الإرهاق والتعب وخصوصًا كبار السن بعد رحلة العناء والمشقة.
وأثناء تحرك الباص، تستكشف عيناك ما هو خارج النافذة، وترى زرقة السماء والشجيرات ذات اللون الاخضر بجميع تدرجاته، لتغتالك الحسرة على أرض مسلوبة وحريّة مصادرة.. لماذا نحرم من جمالها؟ إلى متى يجثم ظلم الاحتلال على صدورنا؟
يصل الأهالي لمحطتهم الأخيرة وهو السجن الذي يقبع به أقاربهم، وهو في ذات الوقت المكان الذي يجمعهم، ويبدأ التسجيل للزيارة من خلال شباك صغير يفصل بينك وبين الصهيوني الذي يأخذ هويتك وتصريحك ليسجلك ضمن زوار اليوم، وبعد فترة يهتفون الأسامي بلغتهم الركيكة، فتدخل ليطلب منك خلع حذائك ووضعه في ماكينة أخرى، وأنت كالسابق تمر من خلال بابٍ مدولب، وبهذه المرحلة يشتري الأهالي الدخان من الكانتينا، ويضعون مبلغاً من المال لصالح أقربائهم، كما وتدخل الملابس للأسرى، ولكن هذه الخطوة بالتحديد تثير غضب الأهالي إذ تصادر بعض الهدايا أو يتم رفض دخولها بعد أن قطعت تلك المسافة بشوق ولهفة، وذلك عائد لمزاج المحتل.
تعود من جديد لتدخل غرفة تفتيش أخرى، لتسألك المجندة هل معك شيء ما؟ هاتفًا مثلاً، وتبدأ بتفتيش جسد السيدات كل واحدة على حدة، بدءًا من شعر رأسها حتى أخمص قدميها، لتلامس أماكن حساسة دون حياء أو خجل، وإذا كان رجل فيفتشه المجند المسؤول عن التفتيش.
يضعون جميع الأهالي الزوار بغرفة انتظار مدة (10) دقائق، ومن ثمَّ يفتحون الباب لهم لينطلقوا لغرفة الزيارة التي ستجمعهم مع أحبابهم، زجاج يفصل بينهم، ومقاعد تساعدهم على الجلوس متزنين للتدقيق والتركيز على ملامح الوجوه، هاتف يوصل لك أنفاس وحروف وكلمات تخرج من قلوبهم لقلبك.
دخلوا شامخين صامدين والابتسامة تعلو فوق شفاههم، بدايةً لا تستطيع الكلام لربما من قوة الشعور، تعلق نظرك في ملامحهم فقط، تدرس هذا الأسير، وزنه، مشاعره، هل تلمع عيناه كالسابق أم أطفئتهما عتمة الزنازين.
(45) دقيقة تفر من الزمن تجمع بين نبضين من وراء الزجاج، (45) دقيقة تجمع كل المشاعر،ضحك وتبادل الأخبار والشوق والدموع، ثم يعلن مغتصب الزمان والمكان انتهاء المدة "انتهت الزيارة" وكم قلب تكسره هذه اللحظة
مشوار شقاء مدته (600) دقيقة لتحظى بـ(45) حلاوة لقاء يجمع بين الأسرى وأقربائهم، دقائق ما هي إلا حرية يتنفس الأسرى بها الصعداء لتغمرهم وأهاليهم وتختلط عليهم دموع الفرح والحزن في آن، آما آن لهذا القيد أن يُخلع؟