منال الزعبي - النجاح الإخباري -
يقول المتفائلون : "إنَّ النفس كالنور، لا يمكن إفسادها" ، عبارات سطّرت بها فدوى طوقان رحلتها الجبلية التي كانت جدُ صعبة في ظلّ محاولات العادات والتقاليد طمس شخصيتها وهويتها الأنثوية البارزة في مجتمع ذكوريّ بامتياز.
مع اعتقادي أنَّ الإنسان إذا استهلكه الهوان انقلب إلى مخلوق مليء بالانحرافات، الا إذا وجد من يحبه ويدثره بالحنان فهو العنصر الأساسي والجو الملائم لنمو إنسانيتنا، وهذا ما حصل مع سنديانة فلسطين حين دثّرها أخوها إبراهيم طوقان، ذلك النجم اللامع في سماء الثقافة الفلسطينية.
قالت فدوى طوقان في عرضها لرحلتها الشاقة: "إنَّ الطبيعة ضد الفراغ دائمًا، ترفضه ولا تتعايش معه فلا بدّ للنفس من الامتلاء بشيء ما، الحب، أو الخير، أو البغض والشر، بالنوازع البناءة أو الهدّمة التي في نهايتها تدمّر الذات إن لم تجد ما تدّمره خارجها".
وكالفحم الذي يتحول إلى الألماس إذا ما تمّ ضغطه، حوّلت القسوة فدوى إلى إنسانة بعمق ثقافي وأدبي وهوية أدخلتها تاريخ الأدب والثقافة، وعن تجربتها قالت وشريط الذكريات يمر أمام عينيها: " لقد لعبوا دورهم في حياتي ثمَّ غابوا في طوايا الزمن" ، تلك السنديانة التي عانت جور القريب وتحدّت جدران المنزل السامقة لتطل من نافذتها المرتفعة على نور الحياة والحرية.
اتخذت طوقان من الحرية مسلكًا يهربها من ضيق الكبت والاستعباد الاجتماعي رافضة في مبادئها ومعتقداتها الظلم والجور تقول في عبارات نقشت في الأذهان: "لو كانوا استعملوا اليد الحريرية في محاولة خنق تطلعاتي بدلًا من اليد الحديدية لأفلحوا ونجحوا، فخيوط الحرير الرقيقة الناعمة عادة أقدر على الخنق"، في هذا إشارة إلى أنَّ الأزمات والظلم يخلق فينا القوّة والتمرد ويُخرج من أعماقنا ذلك المارد الذي يصرخ في وجه كلّ متجبر.
ينسب البعض نجاحهم إلى البيئة من حولهم ودافعية الناس لهم لكنَّ فدوى التي غلّف الصمت لغتها مع من جمعتها بهم وحدة الدم نطقت وعبّرت شعرًا خلّد ذكرها.
"إن لم أكن لنفسي فمن يكون لي ، وإن كنت لنفسي فمن أنا؟ " فكرة تبنتها طوقان، ما يدل على العمق في شخصية نسوية أبت أن تكون عادية وتمر عبر الزمن مرور الكرام، فوضعت بصمتها الواضحة في الأدب والشعر الفلسطيني ليكون مسموعًا عبر منابر عالمية.
وعن الحب الفكرة المجردة والعالم المطلق الذي لا تقيده شهوات الجسد بل يطلق العنان للروح لتسبح في فضاءات وسعها المدى زرعت طوقان فكرة: " إنَّ القلب الممتلئ بالحب يختنق إذا لم يجد من يحب"، فمن تراها أحبت؟
طرقت فدوى أبواب الإحساس بحس مرهف ففي لحظات الحب يشعرالإنسان بإنسانيته تتكثف ويخرج من قطب العزلة الجليدي راحلًا إلى الوهج والإشراق.
وعبّرت طوقان عن الصخرة التي زحزحها إصرارها بأن المأساة هي تصادم بالضرورة مع استحالة تنفيذ هذه الضرورة علميًا في ظل الإصرار.
ولأنه لا ديمومة لشيء، وما من بيت نسكنه للأبد، وما من عقد يعقد حتى النهاية، كسّرت فدوى الأبواب الموصدة وخرجت إلى النور رغم أنف العادات والتقاليد ضاربة مثالًا يحتذى للمرأة القوية، كان تحدي العائلة الخطوة الأولى تبعها طريق من التحديات ورحلة وصفت بالجبلية الشاقة والصعبة تجاوزت فيها الاحتلال والنقد وحتى الاحباط واليأس قهرته ومضت، وهنا تركت لكل امرأة مفتاحًا لباب عزلتها.
ومن نصائح فدوى الذهبية الصمت والتأمل، "فكلما ارتقى عقل الإنسان قلّت رغبته بالضجيج".
قاعدة كرستها طوقان وتركت لنا أبعادها لنقيس بها مدى سعادتنا إذا عشنا منغصات يستحيل الفكاك من براثنها فعلينا بالبعد الجغرافي، كيف لا وقد انطوى فينا العالم الأكبر!
من قلب تلك المرأة خرجت عشرات الألقاب التي مهرت بها قصائدها قبل إعلان اسمها جريئًا صريحًا، فهي زيتونة فلسطين الخضراء رمزًا للثبات والعزيمة والانتماء الوطني، وهي الحمامة المطوّقة اسم اقتبسته من طوق يقيد حريتها ويعكس جمال حسها، وهي دنانير نسبة إلى جارية يحيى البرمكي المرأة التي جعلت من الحب حريّة وعفّة، وهي أم التمام وأخيرًا سنديانة فلسطين الشامخة التي مرّ على عبورها الزمن مئة عام في ذكرى نحييها لنخلّد اسمها شاعرة فلسطينية وسيّدة التحدي والصمود.