مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - بانتظار وصول الوفد الأميركي إلى رام الله، تتجه الأنظار لمعرفة صفقة العصر التي بشر بها الرئيس ترامب وكثر الحديث عنها في دوائر صنع القرار. لكن الغموض غير البناء خيّم على عمل الفريق المتابع الذي لم يفصح عن أي شيء، تاركاً للتكهنات تقدير عناصر الصفقة الموعودة. ويستشف من التصريحات الفلسطينية رفيعة المستوى عدم معرفة عناصر الصفقة عشية الزيارة. فالناطق باسم الرئاسة عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" نبيل أبو ردينة قال بصريح العبارة: "لم نفهم بعد اهتمامات إدارة ترامب، وما زلنا بانتظار الرؤية الأميركية، ونريد وضوح كامل حول حل الدولتين". وكان الرئيس ترامب لم يأت على ذكر حل الدولتين، ولم يمارس ضغوطاً للحد من التوسع الاستيطاني، وكان حضور الإدارة في أزمة الأقصى مريباً من زاوية الموافقة الضمنية على تغيير إسرائيل لقواعد اللعبة في المدينة والإمعان في تهويدها. أما مبعوثو ترامب فكانوا مجرد حاملي رسائل وطلبات من نتنياهو. إن تجاهل الرئيس ألأميركي لحل الدولتين والمقصود هنا إقامة دولة فلسطينية "قابلة للحياة" و"ذات سيادة" في إطار حل الدولتين كما درج رؤساء الإدارة السابقون على تأكيد هذا الحل للصراع باعتباره الحل الوحيد للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. إدارة ترامب تجاهلت هذا "الحل المقيد بشروط إسرائيلية، محدثة بذلك قفزة كبيرة إلى الوراء، متجاهلة اعتراف الأكثرية المطلقة من دول العالم بالدولة الفلسطينية وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
إن إدارة ترامب تحاول شطب الإنجازات السياسية التي حققتها الدول المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وغير القابلة للتصرف وإذابة القضية الفلسطينية في المحيط العربي باسم "الحل الإقليمي" الذي تشارك في صنعه دول عربية عديدة. وهذا يفسر أن مبعوثي الرئيس يزورون مصر والأردن والسعودية وقطر للبحث في عناصر الحل الموعود.
مقر الرئاسة سيستقبل الوفد مع سقف توقعات منخفض جداً حتى لدى من روجوا لإمكانية تحقيق اختراق في عملية سياسية كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة. لكن "المتفائلين" من الطرف الفلسطيني أمدوها بالأكسجين وتركوها في غرفة الإنعاش بانتظار وصول كوشنير وفريقه الميمون. ينطبق عليهم قول ماركس: "إن التاريخ لا يعيد نفسه، فهو يأتي مرة في صورة مأساة ويأتي في الأخرى في صورة مهزلة".
لم يعد مفهوماً قبول إحياء الوساطة والاحتكار الأميركي للعملية السياسية بعد ربع قرن من الإخفاق والانحياز الفاقع لمواقف دولة الاحتلال الذي أدى إلى تعميق الاحتلال ومضاعفة الاستيطان أضعافاً مضاعفة وتقويض مقومات الدولة الفلسطينية. أمر غير طبيعي تجديد الرهان على الدور الأميركي بعد صعود اليمين الأميركي المتطرف (القومية الاقتصادية المتطرفة) التي شعارها "أميركا أولاً"، والتي أعلنت حرباً تجارية، وعقوبات جماعية ضد شعوب، وهي الأشد انحيازاً للكولونيالية الإسرائيلية. ومندوبتها في الأمم المتحدة تلوح باستخدام حذائها ذي الكعب العالي لتضرب به كل من يمس إسرائيل في اجتماعات مجلس الأمن. كيف يمكن الرهان على إدارة ضربت رقماً قياسياً في تفجير أزمات خارجية وداخلية في سياق العمل على تغيير قواعد اللعبة بين الحلفاء وغير الحلفاء داخل الولايات المتحدة وخارجها. العنف الذي حدث في "تشارلوتسفيل الأميركية" من قبل المجموعات العنصرية المتطرفة التي ترجمت خطاب الكراهية إلى عنف وحشي أدى إلى قتل امرأة أميركية وإصابة العديد من المتظاهرين السلميين. كان من المدهش والمثير تعليق الرئيس ترامب على الهجوم العنصري البشع عندما أشاد "بأشخاص رائعين للغاية" من العنصريين المتوحشين المنتهكين للنظام والقانون من جهة، والمحتجين السلميين في إطار النظام والقانون من جهة أخرى. لقد فهم هذا الموقف على أنه تأييد للعنصريين، ما أدى تفاقم الأزمة الداخلية وقاد إلى عزلة الإدارة وخاصة بعد تعرضها لانتقادات قيادات في الحزب الجمهوري، وبعد استقالة العديد من المستشارين والموظفين ورجال الأعمال. ما أود قوله هنا: إن أزمة إدارة ترامب الآخذة بالتفاقم وبالعزلة الداخلية والخارجية، بفعل تبنيها لمواقف متطرفة بدءاً من البيئة والتمييز ضد السود والمسلمين (الشعوب)، وصولاً إلى السعي الحثيث لشطب "أوباما كير"، وتأزيم العلاقة مع حلف الأطلسي، كل هذا لا يؤهل إدارة ترامب المتخبطة للقيام بدور الوسيط والمبادر إلى حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في لحظة الاحتدام.
وإذا ما وضعنا أزمة الإدارة الداخلية والعالمية جانباً، فإن أعضاء الطاقم الذي شكله وكلفه ترامب للتفاوض والوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يختلفون في مواقفهم عن مواقف أقصى اليمين الإسرائيلي المتطرف. جاريد كوشنير كبير مستشاري الرئيس، بعيداً عن سيرته الذاتية الحافلة بالانحياز لإسرائيل، فقد كشفت التسجيلات بصوته في لجنة مجلس الشيوخ قوله: لا يوجد شريك فلسطيني، ويتبنى المواقف الاسرائيلية من الاستيطان والتحريض الفلسطيني المزعوم، ووقف دفع رواتب الأسرى ووضع البوابات على مدخل الأقصى. و"جيسون غرينبلات" المبعوث الأميركي لعملية "السلام" هو يهودي متعصب ومستوطن سابق عاش في مستعمرات "كفار عتصيون" القريبة من الخليل. أما السفير الأميركي في تل أبيب ديفيد فريدمان فهو مؤيد متحمس للاستيطان وعضو في جمعية أصدقاء مستعمرة "بيت إيل"، وضد حل الدولتين، وأنكر وجود الشعب الفلسطيني، ودعا إلى ضم الضفة، ويدعم نقل السفارة إلى مدينة القدس. إن من يختار مثل هذا الطاقم ومعه المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة "نيكي هيلي" لا يريد حلاً للصراع. فهؤلاء يتبنون الرواية الإسرائيلية في أسوء نسخة لها، وهم وصفة سحرية لمفاقمة الصراع وإشعاله. وغير مؤهلين للوساطة التي من المفترض أن يتمتعوا كوسطاء بالنزاهة والحياد، على العكس من ذلك هؤلاء يصلحون لمهمة واحدة هي نقل الشروط الاسرائيلية المتزمتة والدفاع عنها وممارسة الضغوط من أجل فرضها على المفاوض الفلسطيني.
إن مبعوثي إدارة ترامب يريدون، تعزيز التطبيع العربي الإسرائيلي بقلب مبادرة "السلام" العربية رأساً على عقب. وإضفاء شرعية عربية على تجديد الاحتكار الأميركي للوساطة، تمشياً مع الهدف الإسرائيلي المركزي وهو تعميق الاحتلال والاستيطان والهيمنة الاستعمارية، وتدمير مقومات الدولة الفلسطينية على الأرض. وحشر القيادة الفلسطينية أمام مطالبات وقف التحريض ضد إسرائيل، ووقف وتمويل الإرهاب، والاعتراف بيهودية إسرائيل، وإعادة التنسيق الأمني وكل ذلك مقابل تحسين الأوضاع الاقتصادية أخذاً بالسلام الاقتصادي الذي دعا له نتنياهو.
ولما كان التعاطي مع شروط مبعوثي ترامب وخططهم يعادل الانتحار السياسي، فإن استمرار العمل في هذا المسار ليس مضيعة للوقت، بل إنه وصفة سحرية لمفاقمة التآكل الداخلي الفلسطيني. ولا مناص من الذهاب إلى مسار آخر بالأفعال وليس بالأقوال، بالواقعية الوطنية الملتزمة، وليس بالجعجعة والمقامرة.