مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - أثارت معركة القدس في حلقتها الراهنة وما قبلها من حلقات تحولاً في مواقف دول عربية عديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ذلك التحول الذي له بالغ الأثر على الحقوق الوطنية والمدنية للشعب الفلسطيني راهنا ومستقبلا.
فيما مضى كانت القضية الفلسطينية أشبه بوديعة عربية، وبفعل ذلك اعتمد الشعب الفلسطيني على الدول والجيوش العربية للدفاع عن الوطن الفلسطيني قبل النكبة، ولتحريره واستعادته من دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطيني.
كانت الهزائم من نصيب الدول العربية التي كانت تابعة للدول الاستعمارية – ما قبل الاستقلال – ولم تتمكن الأنظمة الوطنية ما بعد الاستقلال من تغيير المعادلة عندما هزمت في العام 1967 لتضيف نكبة أخرى للشعب الفلسطيني، القيادة الفلسطينية كانت جزءا من النظام العربي الرسمي وشريكا في الهزيمتين والنكبتين.
كان العالم العربي عالمين: عالماً أول هو جزء من علاقات التبعية السياسية والأمنية والاقتصادية للدول الاستعمارية، وعالماً ثانياً تمرد على علاقات التبعية وأنجز تحررا وطنيا واستقلالا اقتصاديا نسبيا بالاستناد إلى دعم المعسكر الاشتراكي.
كان عنوان التمرد هو العداء لإسرائيل والاستعداد لإعلان الحرب عليها، غير أن أنظمة العالم الثاني كانت تنتمي للنظام الشمولي الديكتاتوري المعادي للحريات والرافضة لإشراك الشعوب في عملية التحرر والبناء والتنمية، والمتجاهلة لمصالحها ولحقها في المواطنة والعيش الكريم.
في غياب الديمقراطية والرقابة والمساءلة دخل النظام الوطني حالة من الفساد والتشوّه التي جعلته لا يرى إلا مصالحه الأنانية الضيّقة، وكان من السهل هزيمة هذا النظام أمام إسرائيل وأميركا ومن تراجعه عن الإنجازات التي حققها في طور الصعود.
بعد هزيمة حزيران تقلصت الفوارق بين النظامين الأول والثاني بفعل سلسلة التحولات التي شهدها النظام الوطني، وبفعل التسليم بشروط الهزيمة التي جوهرها الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود بمعزل عن حق الشعب الفلسطيني في التحرر وتقرير المصير.
وشيئا فشيئا دخل النظام الثاني في علاقات التبعية التي وحدته مع النظام الأول.
جاء انطلاق الثورة الفلسطينية، ليقدم خياراً آخر خارج علاقات التبعية وبصيغة تمرّد على العالم العربي الواحد؛ خياراً يعتمد أولاً على الشعب الفلسطيني، وعلى دعم ومشاركة الشعوب العربية وقوى التحرر العالمي.
لكن الانفصال عن النظام العربي لم يصمد طويلاً قبل أن تردم المسافة التي فصلت بينهما.
السبب لا يقتصر على العامل الفلسطيني الذي لم يوفر عناصر الاستراتيجية الجديدة، بل يعود أيضا إلى ضعف القوى الوطنية العربية المستقلة عن الأنظمة العربية.
وإذا كانت اتفاقات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية قد جسدت التحولات وعلاقات التبعية السياسية والاقتصادية والأمنية للنظام المصري ومجموعة الدول التابعة أصلاً، فقد جاء اتفاق أوسلو ليضع الشعب الفلسطيني في علاقات أشد تبعية في مختلف المجالات وليضع الحركة الوطنية داخل قبضة أمنية محكمة.
ولم يخرج اتفاق وادي عربة (الاتفاقية الأردنية الإسرائيلية)عن شروط الاتفاقين السابقين.
الجديد في علاقات التبعية الجديدة أن الشروط التي تضعها إسرائيل عبر الاتفاقات هي شروط متحركة ومتغيرة نحو الأسوأ والأدنى وليس لها قاع أخير، وكل شرط جديد كان أم قديما منفصل عن مصالح الدول الأخرى.
كما أن الاتفاقات بدءا من اتفاق كامب ديفيد كرست الحلول والصفقات الفردية، وأصبح بمقدور أية دولة صغيرة كانت أم كبيرة الدخول في علاقات مع إسرائيل وإبرام صفقات معها على حساب ليس الشعوب العربية وحسب بل وعلى حساب أنظمة ودول أخرى.
وسط حمّى البحث عن صفقات فردية التي تضررت منها دول عربية كبيرة، وتضررت بمستوى أشد الشعوب العربية وبخاصة الشعب الفلسطيني جاءت مبادرة "السلام" العربية كمحاولة لفرملة اندفاع وهرولة سلطات عربية للتطبيع مع دولة الاحتلال. فدعت إلى انسحاب إسرائيلي إلى حدود الرابع من حزيران 1967 وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وحل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين على أساس قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194، مقابل تطبيع الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل.
غير أن الرفض الإسرائيلي للمبادرة العربية أبقى على حمّى التطبيع مع دولة الاحتلال.
بقيت المبادرة العربية في الأدراج، وبقي التطبيع والتعاون والتحالف يتحرك بحرية تامة ودون حسيب أو رقيب، ما دفع نتنياهو للقول: "حدث انقلاب في علاقتنا مع دول عربية مهمة والتي صارت تفهم أن إسرائيل ليست عدواً".
الانقلاب كما تشير التقارير الإسرائيلية كان في مجال الاقتصاد والتبادل التجاري الذي تجاوز التبادل في ما بين الدول العربية، وفي مجال التكنولوجيا والأمن وخطوط الطيران وصولاً إلى علاقات دبلوماسية وزيارات متبادلة وتنسيق المواقف ومستوى من الانفتاح السياسي العلني، بل لقد حدث انقلاب سياسي - صامت من طرف واحد - عندما وضعت القضية الفلسطينية بما هي قضية احتلال وطن وسيطرة على شعب، على هامش الاهتمام العربي الرسمي.
وفي الوقت عينه جرى تقديم الخطر الإيراني والإرهاب الأصولي الديني ووضعه في مركز الاهتمام المشترك الإسرائيلي العربي الرسمي.
يحدث مثل هذا الانقلاب في أوج التطرف والاستباحة الإسرائيلية الاستيطانية للأرض وللحقوق الفلسطينية، وفي أوج تهويد مدينة القدس والسعي المتواصل لاقتسام المسجد الأقصى.
وفي الوقت الذي تحتج فيه دول ومؤسسات واتحادات ومنظمات غير عربية على السياسات الإسرائيلية، وتبحث في وسائل للضغط على حكومة الاحتلال كالمقاطعة الأكاديمية والثقافية والفنية ومقاطعة سلع المستوطنات والسلع الإسرائيلية عموما لثني دولة الاحتلال عن إجراءاتها الوحشية، في هذا الوقت وعلى الضد من ذلك تقوم مجموعة من الدول العربية الأكثر ثراء بالتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي دون أدنى المطالبات كوقف الاستيطان ووقف تهويد مدينة القدس ووقف العقوبات الجماعية، كما تفعل دول أخرى.
وفي هذا الوقت تجرى محاولات محمومة لتغيير صيغة المبادرة العربية، بتقديم التطبيع العربي مع دولة الاحتلال إلى البند أولا وبعدئذ يتم التفاوض العربي الإسرائيلي لإيجاد حل للقضية الفلسطينية".
وهي تعلم أن حكومات الاحتلال فاوضت القيادة الفلسطينية ربع قرن دون نتيجة. التطبيع أولا والتفاوض ثانياً وصفة سحرية لتأبيد الاحتلال والسيطرة الكولونيالية على شعب آخر.
الغريب في مسألة التطبيع العربي مع دولة الاحتلال، هو أن كل ما يجري مخالف للقرارات العربية ولميثاق الجامعة العربية ولميثاق الأمم المتحدة والاتفاقات والقرارات الدولية، وكل هذا يحدث بصمت ويظل مسكوتاً عنه رغم ما يلحقه من دمار لمصالح الشعب الفلسطيني الوطنية وحقوقه المدنية والإنسانية.
إن نقد ما يجري والاحتجاج عليه ووضع مبادئ ملزمة مسؤولية كل القوى الوطنية والنخب الثقافية والأكاديمية والإعلامية الفلسطينية والعربية.