فاتنة الدجاني - النجاح الإخباري - السفيرة الكوبية دولسي ماريا بورغر. اسم يجب ألا ننساه. فما زال صدى مداخلتها في اجتماع لجنة التراث العالمي التابعة لـ «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (يونيسكو)، يتردد في وجداننا كما في الفيديو الذي يتم تداوله على نحو واسع في مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف النقالة.

لم تعجبها «محاضرة» مندوب إسرائيل كارميل شاما هكوهين خلال الاجتماع لما فيها من تزوير للتاريخ وتلاعب بالحقائق ومحاولة لحرف المداولات عن وجهتها واللعب على أوتار عقدة الذنب بسبب الهولوكوست، كما استفزتها الفوقية والغطرسة اللتان تعامل بهما مع الحضور، خصوصاً عندما طلب منهم الوقوف دقيقة صمت على ضحايا المحرقة، متجاهلاً الأصول والتقاليد المتبعة، فتصدت له وذكّرت الجميع بأن الجهة الوحيدة المخوّلة طرح مثل هذا الطلب هي رئيس الجلسة لا المندوبون، قبل أن تطلب بالمثل الوقوف دقيقة صمت تضامناً مع الضحايا الفلسطينيين. شكراً كوبا.

تضامن من هذا النوع يعطي معنًى إضافياً للانتصار الذي تحقق عندما تبنى الاجتماع مشروع قرار فلسطينياً يدعو إلى وضع البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي في الخليل على لائحة التراث العالمي، واعتبارهما «منطقة محمية». ذلك أن هذا التضامن أعاد إلى دور «يونيسكو» معناه لجهة نصرة الحق وحفظ التاريخ والثقافة الإنسانية في مواجهة إنكار تاريخ الآخر والعدوان عليه. وهنا أهمية انتصار رواية الفلسطيني، ليس فقط لأنه صاحب قضية سياسية، بل لأن له وجوداً حضارياً وتاريخياً تنتصر له المنظمات الإنسانية والثقافية العالمية.

لا شك في أن معركة تمرير مشروع القرار كانت شرسة فشلت خلالها الضغوط الأميركية ومحاولات إسرائيل تشكيل «كتلة مانعة».

فماذا لو كان هذا القرار هو الثاني خلال أسبوع بعد تصويت «يونيسكو» بالغالبية على مشروع قرار يرفض السيادة الإسرائيلية على القدس وبلدتها القديمة؟ وماذا لو كان يأتي بعد أشهر قليلة على تبني قرار آخر يشكك في العلاقة بين اليهود والحرم المقدسي وحائط البراق الذي يطلق عليه اليهود «حائط المبكى؟

هذا السجل من الإدانات داخل هذه المنظمة، يثبت أن إسرائيل وأميركا عاجزتان. الأولى تحاول وتضغط من دون جدوى، ولا تملك أكثر من خفض مساهمتها المالية بنحو مليون دولار، وهي عقوبة أقل ما يقال فيها أنها مضحكة. أما أميركا، فجربت مقاطعة المنظمة، وانسحبت منها عام 1984 قبل أن تعود إليها عام 2003. ثم أوقفت تمويلها احتجاجاً على عضوية فلسطين فيها عام 2011.

وأخيراً، أعلنت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي أن بلادها «تقيّم المستوى المناسب للعلاقة» بعد التصويت الذي اعتبرته «إهانة للتاريخ». لكن، كما يقول الفلسطينيون، ربما لو قرأت السفيرة التاريخ قليلاً لكانت عرفت أن موقفها هذا هو الإهانة للتاريخ، ولأدركت مدى الفشل المدوّي للديبلوماسيتين الأميركية والإسرائيلية أمام الإرادة الدولية.

لا نخدع أنفسنا بأن القرار سيعني أن التنكيل الإسرائيلي بالخليل وتدمير تراثها سيتوقف، فالبلدة القديمة ستبقى تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وسيبقى شارع الشهداء فيها مغلقاً يُمنع فيه التجار من مزاولة أعمالهم، وستستمر مئات معدودة من المستوطنين في العيش بين 40 ألف خليلي تحت حماية جيش الاحتلال، كما سيبقى الحرم الإبراهيمي مقسّماً. إسرائيل لن تغيّر جلدها.

لكن القرار يعني أن حماية هذا الموقع والحفاظ عليه لم يعودا مسؤولية فلسطينية فقط بل أيضاً دولية، وأن البناء الاستيطاني والحفريات وتغيير المعالم تعني أن إسرائيل تغامر بتدمير موقع تراث عالمي. على مستوى آخر، فإن المفعول الأساسي للقرار هو أن الحرم الإبراهيمي سيرتبط بالوعي الدولي بصفته موقعاً إسلامياً فلسطينياً، بما يعنيه ذلك من اعتراف بالسيادة والحقوق الفلسطينية فيه. وبالتأكيد سيكون ذلك مفيداً في عملية السلام المرتقبة، أو في حال قرر الفلسطينيون اللجوء إلى المحاكم الدولية مستقبلاً.

المعركة لم تنته، فهناك أريحا وسبسطية ونابلس وميناء غزة القديم من بين 14 موقعاً فلسطينياً تنتظر إدراجها على لائحة التراث... وهناك أميركا، وأيضاً إسرائيل التي تدرك أن «شرعيتها» الدولية تتآكل، وستخوض معركة كسر عظم لإنهاء هذا التضامن مع فلسطين.