ريما كتانة نزال - النجاح الإخباري - طالب البعض بتأجيل الانتخابات المحلية بسبب إضراب الكرامة الذي اعلنه أسرانا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بزعم أنها تتعارض مع الحاجة إلى استنهاض فعاليات التضامن مع الأسرى. هذا الموقف اقل ما يقال فيه او عنه انه متسرع وتعوزه العقلانية السياسية والرؤية الشمولية، لأنه ببساطة يلتقط القشور دون تكليف انفسهم عناء التفكير بالسياق والنتائج، ويصر على وضع الأمور في حالة تقابُل وتضاد، لا يمدّ أصحاب هذا النهج التفكير على مداه واستقامته، ولا سيما ان البرنامج الفلسطيني الراهن، برنامج مركَّب يقف على عمودين رئيسيين، يسيران جنبا الى جنب: الوطني من جانب والديمقراطي والحقوقي من جانب آخر، معاً دائماً. يرتبطان بحالة جدلية دون تَغْليب ولا غَلَبة. ربط صحة المطالب بعقلانيتها.
المنهج العبثي التعارضي يتشكل من محورين متوازيين يلتقيان، تحكمهما علاقة تبادلية خدمية. الخطاب الشعبوي السائد، وهو خطاب مُغْرِض في معظم الأحيان، له منطق ودوافع. لكنه لا يملك القدرة على الاستدامة أو التقدم نحو الأمام، لأنه يعاكس منطق الحياة الفلسطينية بخصوصياتها ومركباتها المستمرة إلى يوم الدين. الانتخابات المحلية ليست ترفاً كما يعتقد هؤلاء، بل استحقاق هام لا بد من احترام قواعدها ومواعيدها، ليس بالإمكان تأجيلها ولا الاستغناء عنها؛ نذكر أن عديد الفعاليات والأنشطة الجماهيرية التي نُفذت للمطالبة بعقد الانتخابات، لارتباط وظائفها الخدمية بالحياة اليومية للمواطنين.
حقا المفاهيم التجريدية ليس لها حظ في الحياة، والدليل على عدم استدامة المواقف غير الموضوعية، المصنوعة والمُفْتَعَلة، أنها تُكسَر بيد مفتعليها وصانعيها. لنتأمل في موقف حركة حماس التي أعلنت مقاطعتها الانتخابات المحلية، جملة وتفصيلاً، ثم ما لبثت ان تراجعت عن مواقفها عندما عادت قبل أيام قليلة من الانتخابات، ووجهت أعضاءها إلى ممارسة الانتخاب للقوائم الأقرب إليهم، في نطاق انتخاب المجالس المحلية في الضفة الغربية. انه انتقال مفاجئ من المقاطعة إلى المشاركة بالاقتراع، علماً بأن المشاركة بالترشيح حاصلة ومعروفة، حيث ترشَّح عدد لا يستهان به من أعضاء حماس أو من في حُكمهم، محسوبين على الحركة ضمن التصنيفات المعروفة.
لا يُكلف أصحاب الخطاب الأحادي النظرة، ضرورة الجدل الإيجابي قبل إطلاق خطابهم المُطْلَق، التفكير في الغايات التي من أجلها يتم مواجهة القضايا ببعضها البعض. مواجهة بين الثنائيات المعتادة، وكأنها حالة جديدة، ليستنتج أصحاب الاختصاص في زيادة الإحباط وفن الثنائيات: مقاومة أو استسلام، فعاليات وطنية تتناحر مع الفعاليات الثقافية والفنية وغيرها.. إجراء الانتخابات التفاف على إضراب الأسرى. لنضع أهل الأسرى وحالتهم خارج نقاش الثنائيات، لأننا نتفهَّم دوافعهم وقناعتهم بالفكرة، وإحساسهم باشتداد ضغط الإضراب وازدياد المخاطر على أبنائهم الصامدين مع ثبات السواكن. تفهُّم مراهنتهم المُبالَغ بها على حالة التضامن الشعبي وأثرها على تقليل مدة الإضراب.
ولا جدال في القول أن إشكالية الثنائيات المتقابلة المتضادة أحد تجليات الأزمة الفلسطينية المقيمة، وهي محصِّلة لمنهج تفكير متحجر تراكم على امتداد شريط الوضع الفلسطيني وتفاقم اكثر في زمن الانقسام، حيث بات ترجيح كفة الصراع الداخلي على الصراع الخارجي الرئيسي، ويتجلى هذا بوضوح حين اشتداد الأزمات التي تضعنا في مواجهة مع فشلنا المستفحل. لقد بات ملحوظاً ان اشتداد انتهاكات الاحتلال وجرائمه لا توحّدنا؛ كما ينبغي لبديهية فطرية، لا تساعد في إدارة الصراع الداخلي، بل تظهِّر بشكل أكثر وضوحاً عطبنا وعدم قدرتنا على مواجهة التحديات، هكذا بيدنا. لأننا أبقينا على انشدادنا مركزاً على إظهار مسؤولية الفشل ورميه على الآخر. مطالبات إحراجية، حصاره بالثنائيات، تحميل المسؤولية والذنوب، الحاق الشبهات!
الأمور لم تقف عند هذا الحد فالثنائيات المتواجهة، والخنادق المتقابلة، أوجدت التصنيفات السلبية: خائن وكافر ومستسلم ومفرِّط، وهذا بنظري نتيجة طبيعية للطحن الممارس بين القوى، ومحاولاتها الدؤوبة امتلاك الحقيقة وحدها.
في ضوء هذا الواقع من الطبيعي ان تتحول الثنائيات الى حرب إعلامية مجوَّفة وأضحى خطابها طاغياً على ما عداه، الخطاب العقلاني والموضوعي. وأصبح كافياً كي يطفو على سطح الواقع، على شكل خطابات شعبوية تزيد من تعبنا وفرقتنا، ويزيد من حالة اليأس.
خلاصة القول، إن هذه الثنائية خلقت حالة من التخبط والعشوائية والمزاجية في المواقف، وقادت الى تقلب في المواقف وتضليل للرأي العام، وهي في نهاية الأمر مواقف شعبوية تقود الى المزيد من الانقسام والتفتيت، ما لم تتوقف حرب الثنائيات.