ريما كتانة نزال - النجاح الإخباري - في خيمة الأسرى، توزع النساء علينا الابتسامات، يتجاذبن أطراف ابتسامات توشك على التواري، فقد نجح الإضراب الشامل، لم يخذلهن مجتمعهن. بحكمة النساء اللواتي عركتهن الحياة الفلسطينية، ينهمكن في تحليل أسباب التراجع، ويتأملن في طيّ صفحته.
أجلس في وسطهن دون صورة. كم من امرأة تمسك بإطار مذهب يجلس في وسطه رجل، كم تفسح الخيام للخيال المجال لالتهام العقل، كم زوجة ترقص على متاعب الحياة دون كتفيه.
يأتي الجواب مختلفاً من على يميني. "هَرَّبنا النُطَف من السجن، خفت أن يفوت زوجته قطار الإنجاب، حكموا عليه خمسة عشر عاماً ونصف العام. اعتقلوا "صلاح" قبل العرس"، تبتسم المرأة السمراء ابتسامة النساء اللواتي تُسند لهن مهام التخطيط والتدبير، تستكمل روايتها قائلة: "أصبح عُمْرُ حفيدي "عُمَر" سنة وسبعة شهور، حين يفرج الاحتلال عن والده، يكون الصغير قد اقترب من الخامسة. كسبنا الوقت". تغادر "أم صلاح" خيمة التضامن لتفقد الحشد المتضامن وتعود راضية مرضية.
الجواب الثاني يقدِّمُ نفسه من الخلف. أنا "إيمان"؛ زوجة "نائل البرغوثي". تناولني المرأة الاسم الذهبي دون رتوش أو زوائد. امرأة خمسينية تعلم علم اليقين الشُهرة التي يتمتع بها زوجها ومكانته لدى الفلسطينيين. اسم له رنين وصدى. "نائل" أقدم أسير في العالم. تبتسم "فرحة" من سؤالي الهامشي:" أي عاصفة من الذكريات تعيشين؟!"، عالقة في البدايات".
ألملم سنين عمرها، أضعها لتستريح على المقعد، ونمضي معاً. نستمع لأغاني الحرية.
الجواب الثالث سأجده لدى "أم سامر العيساوي". تتوجه السيدة "ليلى" الخبيرة في شؤون زيارة السجون إلى "أبو ديس"، من هناك وعلى مشارف القدس لتعلن عن التحاق ابنها بالإضراب.
بحكمة الخبيرات في السجون الاسرائيلية تقول "أم سامر" للمجتمعين حولها: اتصل "سامر" في اليوم العاشر للإضراب، يطلب مني السماح له الالتحاق برفاقه. في الحقيقة بلغني قراره. طالباً مغفرتي". لم يكن بإمكان "سامر" إلا الالتحاق باخوانه ورفاقه، ليس من خيارٍ آخر.
تهمس في أذني: "ليتني مارست الضغط عليه؛ فيتزوج".
الجواب الرابع، الذي لن يكون الأخير. أُطِلُّ عليه من خلال الشابة "هبة"؛ خطيبة الأسير "منذر صنوبر"، المحكوم عليه: أربعة مؤبدات وأربعون عاماً، قيمة مضافة إلى شحنات الكراهية. أقول: "لا يضير الشاةَ سلخُها بعد ذبحها".
تطلعني "هبة" على الرسالة التي وجهها "منذر" إلى هبته قبل يوم من بدء الإضراب:
"أكتب إلى امرأة لا تخاف ولا يجدر بها أن تخاف، امرأة مثلك تمنحني كل هذه القوة والشجاعة لأكون رجلاً لا يُهزم، يُحارب في زمن انهزم فيه كثيرون. امرأة تحمل في داخلها كل الحب لفلسطين يخاف منها الخوف، انها المرأة التي يحتاجها الوقت ليتحرر من المحتل. أنت أعظم من أن تخافي على جسدي الضئيل أمام ما تستحقه فلسطين".
من خلف القضبان، يهبُّ الأسرى هبّة واحدة، يقفزون خارج الأسوار، يحتلون المشهد، يُعلنون مرةً إثر مرة، يوماً بعد يوم، شهراً بعد شهر، عاماً تلوَ عام، فشل سياسة "كي الوعي". يرفعون سلاح الإرادة بوجه إدارة السجون. إضراب الجوع والكرامة ضد وجبات الاحتلال العنصرية.
شكراً للأسرى، لأنكم أمسكتم بدفتنا، لأنكم قررتم تسجيل يومياتنا، لأنكم تنتشلوننا من لا مبالاتنا. شكراً لأنكم تؤرخون لتاريخنا، ليس لأن التاريخ الفلسطيني مطمور أو منسي، بل لأنكم تمزقون، صفحات مهترئة.
شكراً، لأنكم ترممون مشاعرنا وماضون في إصلاح يومياتنا. شكراً لأن التضامن معكم أصبح طبيباً لعلاج إحباطنا، شكراً لتذكيركم لنا بمعادلة: أن نكون أو لا نكون، قبل أن نذهب إلى مصيرنا الحتمي، بحجم متناهي الصغر.
شكراً لأنكم قلتم لنا، أن ثمة ملصقاً لأسير فلسطيني، تُعَلّق صورته على الجدران في كل يوم جديد يبزغ على فلسطين. ملصقات لشبان كالورد؛ تركوا الحياةَ قبل أن يروا اكتمالها.