سائد نجم - النجاح الإخباري - “مواجهات عقب اقتحام الاحتلال لمخيم قلنديا”.. كان الخبر شبه يومي ولم ألتفت إلى هذه المقدمة عندما انتهيت من تحرير آخر خبر لي على موقع الإذاعة التي أعمل بها قبل أن أنام، لأستيقظ صباح اليوم التالي على تعابير وجه شقيقي الذي يصغرني بعامين تهزني، ويقول لي بدون مقدمات: “لا اُريدك أن تُصدم من الأخبار، لديك زميل من كلية الإعلام قد استشهد”.
بينما كان يقلني تكسي من بيت لحم إلى رام الله قبل يومين، نَفَذَت عيناي الشاردتان من ضجيج هدير المركبة إلى مشهد العالم الهارب إلى الخلف عبر النافذة، إلى أن تباطأت المركبة بفعل الأزمة الصباحية ليتوقف بي المشهد عند إحدى جدران مخيم قلنديا التي خُطت عليها عبارة “إياد يا وجع المخيم”!! وهل يتوجع الوجع ؟ إن كان المخيم بذاته وجعاً، وأكملت المركبة سيرها، لأبقى أنا مع تلك العبارة التي أعادتني بالمشهد إلى الوراء عاماً كاملاً، بكل تفاصيله.
أذكر وقتها كيف نهضت من الفراش مثل خيل أعمى أبحث في هاتفي عما يكذب الخبر، لأجد “الفيسبوك” وقد اكتست غلافات الأصدقاء عندي صوراً له.. انطلقتُ وقتها مثل رصاصة بلا رجعة إلى المخيم أمشي بين حشود المفجوعين على رحيله، تتلاقى أنظار الزملاء والأصدقاء تكلم بعضها بحسرة، فتُدفن دموعنا ويبقى إياد خارجاً.
أدركت فيما بعد أن “إياد يا وجع المخيم” لم تكن جملة عابرة على حائط، فقد أتت عنواناً لجموع اللاجئين الذين شردهم الاحتلال ولاحقهم داخل المخيمات وطارد أحلامهم بالإعدام.
إياد كان يرى النجوم جميلة فكان يتصرف بشكل طريف ليلفت أصدقاءه، ينظر إلى أعلا ويقول: “يا الله ما أحلا النجوم”، وبنفس النظرة يطمح كخريج بإكمال الماجستير، فكان يقاوم بالعمل ويدخر لجامعته ويعاون والديه في تأمين مصروف المنزل، انتماؤه كان يُرى في كل أماكن اختلاطه.. يروي أهل المخيم وزملاؤه كيف امتازت أخلاقه وخفة ظِله وابتسامته التي لم تفارق ثغره، وتعاونه مع ذوي الإعاقة.
على باب المقبرة يهمس لي شاب من المخيم، إن “المُهَلهِل” كان مشتبكاً بالحجارة مع جنود الاحتلال في ساعات الفجر الأولى، بعد أن تاه مستوطنان داخل المخيم شُن لأجلهما حملة دهم واسعة، كانت غلطته بأنه حين كان يعتلي إحدى أسطح المنازل رفع رأسه يبتسم للسماء، فباغته الجندي بقنص رأسه.. لأعلم بعد هذا السرد أن الحدث الذي لم اُكمل تغطيته في الليلة التي قبلها، بطل قصته زميلي إياد !!
ترجل إياد تماماً كذلك الفارس “المُهلهل”، الذي اكتسب لقبه من أقرانه لشدة تأثره بفروسيته وشجاعته، من خلال مسلسل “الزير سالم”.
قد نجهل كاتب العبارة وما كان يقصد حين خط كلماته على جدار وعبر، ولكن بعض الجمل على الجدران أحياناً تلخص أحداثاً وتفاصيلاً أصعب وأكبر من أن توصف، فهي تشبه تلك التي حملت “لا تُصالح” وكُتبت بالدم، ولعل التاريخ عرف عندما مات كُلَيب ما فعل المُهلهل، ولكن لم يتسنى له بعد استباق الفصول، أن يبدأ هذا المخيم تجسيد قصة مهلهله بحروف دم جديدة تشبه إياد.
عامٌ كامل بدون مقدمات، ككثير من الأحداث التي تمر بحياتنا، وكالأخبار التي يحررها الصحفيون وهم لا يدرون أنها ستصبح في يوم ما، جزءاً لا يتجزأ من حياتهم الخاصة.